أيها الدرويش الحكيم ذو العقل المتأمل، المضيء بالمعارف الكثيرة، استمع لما أقصه عليك: هناك فلاسفة لا يصِلون - في الواقع - إلى ذروة التفكير الشرقي، ولا ينجذبون إلى العرش المنير ليستمعوا إلى تسبيح الملائكة الذي يرنّ في الملأ الأعلى، ولا يدركون غضب الجبار، وهم موكولون إلى أنفسهم، محرومون من الألطاف الإلهية، ويتبعون في صمت نتائج التفكير الإنساني.
إنك لا تتصور إلى أي مدى يقودهم هذا القائد (العقل البشري)، إنهم كشفوا الفضاء، وشرحوا بالميكانيكا البسيطة نظام الهندسة الإلهية. وأن خالق الكون أعطى المادة حركتها، فلم تعد ضرورة إلى شيء أكثر من هذا لينشأ هذا التنوع العجيب للآثار التي نراها في العالم.
إن المشترعين العاديين يقدمون لنا قوانين تنظيم المجتمع الإنساني؛ قوانين تتعرض للتغيير، كتغير العقول التي تقترحها، والشعوب التي تتبعها. وهولاء الشرقيون لا يحدثوننا إلا عن القوانين العامة الثابتة الدائمة التي ترعى دون أي إستثناء، وتمضي في نظام وثبات وسرعة لا حد لها في الأكوان العظيمة الفسيحة.
وما تظن أن تكون هذه القوانين يا ولي الله؟ ستتخيل أنك داخل في الملأ الأعلى وسيملكك العجب من لطف التدبير وسموه. وستأبى - قبل كل شي - أن تفهم، ولن يكون منك إلا الإعجاب.
ولكنك من فورك ستغير رأيك: فكل ما ترى من الأشياء لا يبهرك مطلقا بجلال زائف. بل إن البساطة جعلتها غير معروفة أمدا طويلا، ولم يعرف مدى سعتها وخصبها إلا بعد تفكير عميق؛ فأول حقيقة هي أن كل جسم يأخذ في رسم خط مستقيم ما لم يقابل عقبة تعترضه فترده. والثانية، وما هي إلا متممة للأولى، هي أن كل جسم يدور حول مركز يأخذ في البعد عنه، لأنه كلما ابتعد الخط المرسوم عن المركز كان أقرب إلى الخط المستقيم.
هاك أيها الدرويش السامي مفتاح الطبيعة! وهاك الأسس الخصبة التي تستنبط منها نتائج بعيده المدى كما سأريك في رسالة خاصة.
إن معرفة خمس حقائق أو ست جعلت فلسفتهم ملأى بالمعجزات، وجعلتهم يأتون بالعجائب والغرائب كالتي نرويها عن أنبيائنا عليهم السلام.
ولأنني أخيرا متأكد من أنه لا يوجد بين علمائنا من لا يرتبك إذا طولب بأن يزن في ميزان كل الهواء الذي يحيط بالأرض، ويقيس جميع المياه التي تسقط كل سنة على سطحها. كما لا يوجد من بينهم من لا يفكر أكثر من أربع مرات قبل أن يقول: كم فرسخا يقطعها الصوت في الساعة، وكم من الزمن يحتاج إليه شعاع الشمس ليصل إلينا، وكم طول المسافة بيننا وبين زحل، وأي انحناء يكون في مركب شراعي أفضل ما يكون؟
ولعل بعض الأتقياء إذا جمّل كتب هؤلاء الفلاسفة بكلمات سامية رفيعة، ومزجوها بمجازات جريئة، وكنايات لطيفة، فإنه بذلك يعد كتابا جميلا، لا يعترف بالتفوق عليه إلا للكتاب المقدس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق