السبت، 13 أغسطس 2016

ولادة جديدة

 "إن عملية الولادة في أبسط معانيها تعني الاستمرارية"

تقف القراءة القديمة للنص الديني حجر عثرة في طريق القراءة الجديدة، سواء في ابتداعها أو في دراسة وتطبيق المبتدع منها. فمن ناحية يظن المتمسكون بالقراءة القديمة ولأنها كانت الأقرب زمانيا من العصر الأول للإسلام المحمدي (العصر النبوي)، فهي الأقدر على فهم الدين، ويتحججون بأن الأولين كانوا أكثر دراية باللغة وبالمرويات والأحكام الفقهية وغيرها. ولكن يتناسى هؤلاء المتمسكون بالقديم أن فهم النص الديني وتأويله عمل بشري قابل للصواب كقابليته للخطأ أيضا، وهم أيضا يتجاهلون أو يجهلون الظروف السياسية والاجتماعية التي أنتجته.

بينما يرى الذين ينادون بقراءة جديدة للنص الديني أن الاعتماد على القراءة القديمة هو السبب في تخلف الأمة فكريا ومعرفيا، وفي واقعها المؤلم والمتجه نحو مزيد من التفكك والتراجع، ولا أدلّ على ذلك من الانحلال الأخلاقي وصولا إلى الحروب الطائفية بين المسلمين أنفسهم. ويرى المنادون بالقراءة الجديدة أنها الضامن لمصداقية أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولذلك فهي واجبة على كل جيل وفي كل عصر بما يتناسب مع ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية في كل ميادين العلم والمعرفة، وكما هو معلوم فإن انجازات العلم اليوم تتسارع بشكل يفوق تسارع الأحداث في الدول العربية!

إن تطور المعرفة وأدواتها وتشعب فروعها في هذا العصر لازمه تطور في العقل الإنساني وطرق تفكيره، وقد لوحظ أن الدماغ البشري يتطور باستمرار وذلك نتيجة للتعلم والتواصل فيما بين الناس. وقد أثبت فلين Flynn عالم اجتماع نيوزلندي في الثمانينات أن معدل IQ يزيد كل 10 سنوات بنسبة 3 نقاط وذلك منذ الثلاثينات في العديد من البلدان، وتتعلق هذه الزيادة في الـ IQ، بشكل خاص، بالقدرة على حل المشاكل، لا في مسائل اللغة. ومن ناحية ثانية صار الحصول على المعلومات والمقارنة فيما بينها أسهل وأعظم مما كان في السابق، كما أن السكوت عن ما اختلف فيه الفقهاء ودسّ مصادر العلم لم يعد ممكنا اليوم في ظل هذا الانفجار التقني والتواصلي العظيم.

إن القراءة الجديدة للنص الديني ليست انقلابا على التراث بقدر ما هي خضوع للواقع ومتطلباته. هذا الواقع المعيش الذي يناسبنا كأفراد وجماعات من حيث أننا فرضنا عليه ما توصلنا إليه على الصعيد العلمي والفكري والتقني فبات يفرض علينا أن نعيشه بنفس الطريقة التي نفكر ونتواصل ونبني ونتقدم بها. 

إن القلق بشأن ما كان وما سيكون هو نتيجة خوفنا من التغيير، سواء كان ذلك بسبب خوف البعض على مصالحه الشخصية المادية أو مركزه الاجتماعي أو سلطته السياسية، وإما بسبب عدم فهم الدين، وبالأصح عدم محاولة فهم الأسباب التي أدت إلى ما هو عليه الدين اليوم من تعددية مذهبية بشرية، تجمع بينها الطائفية والقتل في ساحات الحرب، والكراهية والحقد في ساحات العاطفة واللا وعي.

إن من الواجب على المهتمين بقضايا الأمة، الساعين لإخراجها مما تعانيه اليوم، أقول يجب عليهم مناقشة تلك الأسباب التي أدت إلى فرقتها واقتتالها بوضوح تام وبجرأة نقدية تلتزم بالحقيقة فقط دون تقديس الأشخاص أو انتقاصهم، كما يجب عليهم الاجتهاد في البحث عن الحلول، وتجاوز المختلف فيه، والقضاء على كل ما من شأنه أن يتسبب في إثارة المذهبية والطائفية في المستقبل، حتى يتفرغ شباب هذه الأمة المنكوبة إلى الانتاج المعرفي والابداع والمساهمة بفعالية في صنع الحضارة الانسانية.

وخلاصة القول أن ما يجب علينا أن نستوعبه هو أنه لولا القراءة القديمة لما وجدت القراءة الجديدة. وأن كل ولادة جديدة لا تعني نهاية القديم بقدر ما تعني استمراره في شكل جديد قابل للعيش وبعيد من التقليدية العاجزة عن فهم الحاضر والعقيمة في انتاجها المعرفي. لذا فإن على كل جيل أن يبدع قراءة جديدة تتناغم مع واقعه في سيمفونية الحياة الرائعة، ليضمن وجوده أولا وليضمن استمرارية انتاجه دائما. إن سكوتنا عن تمزيق الأمة لنفسها وتفككها مذهبيا وجغرافيا لهو خيانة ليس لحاضرها فقط، بل ولمستقبل أجيالها القادمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق