نخطئ إذا ظننا أن الإيمان بالسحر قد نبت في ذهن الإنسان نتيجة للصدفة أو الارتجال، ففي عالم الشعوب البدائية لا وجود للصدفة. ويكفي أن هذه الظواهر سايرته آلافا من السنين وما تزال تعيش معه، وما نزال نلاحظ هذا حتى في حياتنا المعاصرة، وإن دل على شيء فإنما يدل على أنها استمدت أصولها من إملاء قلوب السلف استجابة لحاجتهم الاضطرارية إلى المعرفة، أو تخيل المعرفة، ليتغلبوا على القلق الأزلي الذي كان ينتابهم في خضم الكون ومخاطره. وقد اختلفت طبيعة تلك الاستجابة باختلاف صور العالم التي صورتها لهم معارفهم وأوهامهم في مختلف البيئات والعصور.
ولعل الإنسان أول ما وعى لم يميز بين نفسه ومحيطه، فخيل إليه أنه مجرد عضو من جسم عالمي فيه كل محتويات الكون، وهو كالجسم الآدمي متضامن الأعضاء يعين بعضها بعضا، حتى إنه يمكن، بحكم تضامنه الكامل مع العالم، تحريكه وفق إرادته إذا ما عرف سر تلك الروابط. تلك الفكرة وهي أن الإنسان يملك سلطانا على القوى الخارجية يعرف كيف يديرها على نحو ما هي أساس السحر.
ولقد كانت مرحلته التالية في تطور تفكيره وفي محاولته تفسير مظاهر الكون، أن عزا إلى الكائنات روحا خاصة وأسند إليها إرادة ذاتية وتصور أنها دائمة التدخل في حياته اليومية، ثم ألّهها كلها كما ألّه كل ما كان يجهله ويخشاه، وهذا ما يسمى الروحانية (animism).
ويحصر بول غليونجي مقومات السحر في ثلاثة أمور:
أولا: الاعتقاد بوجود قوة خفية (لا شخصية ولا مادية) تنظم العالم، وأن الساحر يمكن أن يأسرها في جسمه، ثم يحلها بدوره في جسم غيره، وأن يسخرها بصفة عامة عن طريق وسائل معينة.
ثانيا: المنطق الكاذب الذي يستقرئ القياس السطحي، المثل من المثل، والذي يرى روابط بين الشيء وشبيهه، وبين الشيء واسمه، كأن يعتقد أن أي عمل أتى بنتيجة في الماضي سوف يأتي بمثلها في المستقبل، وأن اسم الإنسان يحدد مصيره، وأن الدواء إذا شابه عضوا فإنه يشفي آلام هذا العضو، وأن خواص الأرقام والأشكال الهندسية تكسبها صفات ملائمة. ومن أمثلة ذلك التفكير الاعتقاد بأن صب الماء على الأرض يسقط المطر. وأن إلحاق الأذى بأي نموذج يسبب مثله في الأصل، وأن يوما من الأسبوع وقعت فيه كارثة يظل شؤما في المستقبل، .. الخ.
وما زال أكثرنا لا يتحدث عن مرض إلا مسبوقا بعبارة "بعيد عنك" أو "عدوك" أو "يكفينا شره"، بل ويتحاشى التلفظ بأسماء الأمراض القاتلة، ويكني عنها بكنى مختلفة، فمثلا يكني السرطان بـ"المرض الملعون" أو "المرض الخبيث". ولا يقدم على عمل ما إلا وقد تضرع قبله بالدعوات. وهذا لا يعني أن الابتهال إلى الله ضرب من ضروب السحر، ولكن الباعث النفسي الذي يملي هذا التضرع إلى الانسان هو الشعور القهري نفسه الذي كان يوعز بتلاوة التعاويذ في العصور النائية، إذ أن الإيمان بالأصنام وبالأرواح كان في ذلك الوقت في مثل إيماننا اليوم بالله ورسله، فضلا عن أن حاجة الإنسان إلى سند علوي هي من الظواهر الباقية.
ثالثا: عدم إدراك الإنسان لفكرة الموت ردحا طويلا من الزمن لدى كثير من الناس، وعدم تمييزه بين الموت والحياة، وتخيله أن الموت نوم طويل يعيش الميت في أثنائه عيشة الأحياء. وأنه يستقبل منهم السلام عليه ويرد عليهم. وأنه يستيقظ أحيانا فيزور الأحياء طيفا في أثناء نومهم، وشبحا أو رؤيا في أثناء اليقظة، ويطالبهم بحقوقه أو أملاكه أو بالصدقة عنه. ومن هنا نشأ الإيمان بالأحلام وبالأشباح، وتقديم الأطعمة والملابس للمتوفين. وعمليات السحر لإعادة الحياة إلى ما كان يحيط بهم في كهوفهم، لتهيئة أسباب الراحة والترف لهم، بغية استرضائهم والحيد بهم عن فكرة العودة. بل يذهب بعضهم إلى القول بأن ركام القبور الذي تحول فيما بعد إلى "الشاهد" كان الغرض من وضعه على القبور في أول الأمر زيادة الثقل على الميت للحيلولة بينه وبين مغادرة قبره.
كانت هذه بعض المقومات النفسية التي جعلت الناس تؤمن بالسحر في الماضي، فلماذا لا يزال الناس يؤمنون به؟!
لا شك أن أصحاب العقول المستنيرة ينكرون السحر بالكيفية التي يعتقدها عامة الناس، بل ويعدونه من الخرافات التي اخترعها ضعاف العقول العاجزون عن الكسب المشروع. إلا أن كثيرا من الناس في المجتمعات المختلفة لا يزالون يعتقدون في الأعمال السحرية، في حقيقتها أولا ثم في حقيقة تأثيرها في إحداث الأثر الذي تُعمل لأجله. وهنا يجب أن أقول أنه من الواضح أن مستوى الأفراد التحصيلي أكاديميا لا يؤثر على صاحبه بقدر تأثير العقل المجموعي لأفراد المجتمع الذي يعيش فيه، فكم من أولئك الذين يعتقدون في السحر يحملون شهادات جامعية؟! وكم منهم من زمرة المثقفين المؤثرين في مجتمعاتهم؟
إن ما يجب الإيمان به هو أن السحر مجرد وَهْم، يحدث أثره بواسطة الإيحاء، وذلك عندما ينجح الساحر في التأثير على المجال البصري لأصحاب العقول الضعيفة والنفوس الهشة، ممن لديهم الاستعداد للتصديق به. وكما هو معلوم فإن الرغبة أحد أهم أسباب الوهم، بالإضافة إلى الخوف. وهذا يعطينا فكرة عن الدور الذي يقوم به الساحر حيث يزرع الرهبة في قلوب المشاهدين له، ويسيطر عليهم بالإيحاء وبالترهيب، وبواسطتهما أيضا يستطيع الساحر التأثير على مشاعرهم.
وأما عندما نصف حدثا ما بأنه سحر، فهذا يعني أن العقل (منطقيا) لم يستطع أن يفهم كيف حدث! تماما كما في ألعاب الخفة والخدع البصرية. الجدير بالذكر أن هناك أبحاثا علمية أجريت على مشاهدي الخدع البصرية (أي الحيل السحرية) لمعرفة أي جزء من الدماغ يكون نشطا خلال الاستجابة الادراكية للخدع البصرية، ومنها ما توصل إلى حدوث زيادة في نشاط القشرة الحزامية الأمامية عند الأشخاص الذين شاهدوا الخدع البصرية مقارنة بأولئك الذين شاهدوا مشاهد معقولة منطقيا.
وفي الختام نذكر قصة حدثت لرجل يدعى "كينج" من أقزام البامبوطي الذين يعيشون في الكونجو، هؤلاء الأقزام يعيشون في غابات كثيفة إلى حد لا يرى المرء معه ما هو أبعد من عدة أمتار في كل اتجاه. فقد قام كولن تورنبول وهو عالم انثروبولوجيا باصطحاب "كينج" في رحلة، يحكي تورنبول بعض تفاصيلها قائلا:
بينما كنا نعود إلى السيارة، نظر "كينج" عبر السهول إلى حيث كان قطيع من حوالي مئة جاموس يرعى على بعد أميال. فسألني أي نوع من الحشرات هذه، فقلت له إنها جواميس، وحجمها ضعف حجم جواميس الغابة المعروفة لديه. فضحك بصوت عال وقال لي لا تحكي مثل هذه القصص الغبية، وسألني مرة أخرى أي نوع من الحشرات هذه. ثم بدأ يتحدث إلى نفسه وظل على هذه الحال حتى اقتربت السيارة من القطيع، وقد شاهدهم يزدادون ويكبرون في الحجم، وعلى الرغم من أنه كان شجاعا، إلا أنه انتقل وجلس على مقربة مني، وتمتم قائلا: "إنه سحر". وآخر الأمر عندما أدرك "كينج" أنها جواميس حقيقية، ذهب الخوف عنه، ولكن الذي مازال يحيره هو السبب في أنها كانت صغيرة جدا، وعما إذا كانت صغيرة حقا ونمت فجأة لتصبح كبيرة، أو ما إذا كان نوعا من الخداع.
انتهت القصة ويبقى سؤالٌ مفاده: كم يا ترى عدد أولئك الذين يسكنون البيوت من أمثال "كينج"؟!!
*********
المراجع
1. بول غليونجي، طب وسحر، دار القلم ومكتبة النهضة للنشر، القاهرة،
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق