الثلاثاء، 26 يوليو 2016

التسمية .. من يمتلكها ؟!

"بداية الحكمة أن تدعو كل شيء باسمه"
حكمة صينية

إلى الآن ما زال التلاعب بالتسمية أو الأشياء ومسمياتها هو سيد الموقف في جهلنا بها وتخلفنا عن الركب العالمي المتقدم. ولعل أوضح ما في الأمر أنها لعبة غير واضحة المعالم ومتعددة المواضيع، كما أنها مختلفة النتائج والآثار على الأفراد والمجتمعات. يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: تسمية الشيء هي تملكه، وهذا ما يوضحه عبد الوهاب المسيري بقوله: إن مَن لا يسمي الأشياء يفقد السيطرة على الواقع والمقدرة على التعامل معه بكفاءة، ووصف المسيري حال الإنسان العربي المعاصر بقوله: إنه فقد القدرة على تسمية الأشياء.

وهذا يعني أن الإنسان العربي المعاصر فقدَ السيطرة على واقعه وفشل في التعامل معه، وهو ما ينطق به الواقع بكل وضوح صارخ ومؤلم. ولكي لا يقع الفكر الإنساني في أوهام معرفته للحقيقة، فقد دعا فرانسيس بيكون إلى التخلص من "الأوهام" التي تحدق بالفكر الإنساني إذا أراد بلوغ المعرفة الحقيقية، وهذي الأوهام هي: القبيلة، والكهف، والميدان العام (السوق) والمسرح. واعتبر بيكون أن أوهام الميدان العام أو السوق حيث يلتقي الناس ويتحادثون ويدعم بعضهم أوهام بعض، هي أكثر الأوهام ازعاجا لأنها تلحق الأفكار بالكلمات، والتي انسربت إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء، ذلك أن الناس يظنون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ. وذكر بيكون نوعين من الأوهام تفرضهما اللغة على الفهم؛ وهما: إما أسماء لأشياء لا وجود لها (مثال: نظرية المؤامرة*) وإما أسماء لأشياء موجودة ولكنها مختلطة وغير محددة (مثال: هيئة كبار العلماء في السعودية أو مصر) وغيرها من الأمثلة التي تحدق بالفكر العربي المعاصر.

ولكن كيف يكون للتسمية دور في تخلفنا عن الركب العالمي المتقدم؟ ومن الذي يمتلك التسمية؟ وهل التسمية سلطة أم سلاح في يد السلطة؟ وإن كانت كذلك، فكيف تكون التسمية سلاحا في يد السلطة؟

بما أن المثال يكشف ألغاز المقال فسأذكر مثالين شائعين عن التلاعب بالتسمية. أولهما ما قاله المفسرون عندما فسروا الآية التي تضمنت: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، حيث زعموا أن المقصود بالعلماء هنا شيوخ الدين بينما إذا استعرضنا الآية بدون اجتزاء فسنجد أنها تتحدث عن علماء الأحياء، والأنثروبولوجيا، والجيولوجيا، والمياه، والنبات والحيوان وغيرهم. ولعل غياب العلماء المتخصصين في العلوم الطبيعية والإنسانية (فيزياء وكيمياء وأحياء، علم الاجتماع، ...الخ)، ساهم في استبدال مسمى "علماء الدين" بـ"شيوخ الدين". إن أكثر الناس، وبطريقة غير واعية، وتحت تأثير الاعتياد ومسايرة الأغلبية وسلطة الاسم "علماء" وغيرها من الأسباب، أقول إن هذه الأكثرية لا تتردد في عمل مقارنة بين قول شيخ الدين الذي ينقل من كتب الأولين وبين ما توصل إليه علماء الفيزياء الكونية! ولعل ذلك يتضح في مسائل علمية مثل: كروية الأرض ودورانها حول محورها وحول الشمس.

ومثال آخر وليكن الحديث (إن صح) القائل: "العلماء ورثة الأنبياء"، فإن النبي عليه السلام أخبرنا عن طريق الوحي بغيبيات مثل خلق الكون وبداية الجنس البشري وقصص الأولين، وهذا ما يكشفه لنا علماء الآثار والأحياء والطب والفيزياء الكونية وبقية المنتمين لزمرة العلماء. وليس لشيوخ الدين (الوعاظ) في هذه الاكتشافات من شيء إلا الإسراع في تكذيبها والسخرية منها، ولكن ما أن يجدوا أثرا في كتب التراث يوافق ما توصل إليه العلماء (ورثة الأنبياء) في مختبراتهم أو ميادين بحثهم، سارع أولئك الشيوخ إلى زعم أن اكتشاف هذا العالم أو تلك هو من الاعجاز العلمي في السنة النبوية!

وما هذا إلا مهزلة تكشف لنا العقم الفكري الذي نعيشه، فهل هناك تخلف وإعاقة فكرية أكبر مما نعيشه اليوم؟

ومن ناحية أخرى فإن اطلاق مسمى "علماء" قد يوهمنا كأفراد ومجتمعات بأننا نمتلك في الواقع علماء "Scientists" وذلك من خلال تشكل صورة خيالية للفظ "علماء" في الذهن دون الوقوف على دلالة اللفظ في الواقع، بل واستبدالها بالدلالة الخيالية وهذا ما يسمى بالخيال أو المخيال الاجتماعي. وعندما نسمي أحدهم "عالما" فنحن لم نعطه التسمية فقط، بل شكلا من الوجود الاجتماعي أيضا.

إن التسمية ليست فعلا بريئا إنما فعل سلطوي، فالسلطة تستخدم التسمية لتعزيز الأيديولوجية التي تتبناها، ولخدمة نفوذها واستدامته وذلك من خلال تغذية المخيال الاجتماعي. يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو: لا تحكم لغة السلطة وتأمر إلا بمساعدة من تحكمهم، أي بفضل مساهمة الآليات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك التواطؤ الذي يقوم على الجهالة، والذي هو مصدر كل سلطة.

ويؤكد رولان بارط بأن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. وأن هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة ومنذ الأزل هو اللغة أو بتعبير أدق اللسان. ويضيف بارط بقوله: إن اللغة ما إن ينطق بها، حتى وإن ظلت مجرد همهمة، فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها. إذ لا بد وأن ترتسم فيها خانتان: نفوذ القول الجازم، وتبعية التكرار والاجترار. في اللغة إذن خضوع وسلطة يمتزجان بلا هوادة.

خلاصة القول أن الأسماء التي نلصقها بمسميات ما، ومن خلال صورة ذهنية غير واعية، تعمل على تضليلنا واستعبادنا واستبعادنا من خلال سلطة اللغة والتي تستمد سلطتها من وجودها الاجتماعي. إن اللغة سلطة رمزية تمارس نفسها على هيئة القدرة التي تجعلنا نرى أو نفهم أو نعرف أو نؤمن، ذلك أن السلطة الرمزية هي سلطة تعسفية في الأصل، ولكن الناس يعترفون بشرعيتها لأنهم يجهلون أنها تعسفية. إن هذه السلطة الرمزية تتحد بفضل علاقة معينة تربط من يمارس السلطة بمن يخضع لها. وكما أن اللغة تؤدي إلى الهيمنة والسيطرة، فهي كذلك أداة عنف رمزي تؤثر نفسيا على الجماهير وتجعلهم يخضعون لقرارات فئة معينة تميل إلى احتكار امتيازاتها.

*******

* لا نؤمن بنظرية مؤامرة أزلية، ولكن هذا لا ينفي وجود مؤامرة معينة على سبيل المثال للإطاحة بنظام الحكم في دولة عربية ما.
- نظرية المؤامرة بحسب ويكيبيديا تعني: محاولة لشرح السبب النهائي لحدث أو سلسلة من الأحداث (السياسية والاجتماعية أو أحداث تاريخية) على أنها أسرار، وغالباً ما يُحال الأمر إلى عصبة متآمرة بشكل منظم هي التي تقف وراء الأحداث، وكثير من منظمي نظريات المؤامرة يدعون أن الأحداث الكبرى في التاريخ قد هيمن عليها المتآمرون وأداروا الأحداث السياسية من وراء الكواليس.

المراجع
1. بيير بورديو، الرمز والسلطة، ت. عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2007م.
2. رولان بارط، درس السيميولوجيا، ت. ع. بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 1993م.
3. فرانسيس بيكون، الأورجانون الجديد، إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة، ت. عادل مصطفى، دار رؤية، القاهرة، مصر، طبعة 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق