الثلاثاء، 15 سبتمبر 2015

مريم .. يا أخت هارون .. محمد شحرور

ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه دفاعا عن القرآن ضد منتقديه، الفصل الثاني عشر: حول النداء القرآني {يا أخت هارون}، ما نصه: 
[من بين الأربعين سؤالا التي أثارها الهولندي أدريان رولاند في الجزء الثاني من كتابه "الدين المحمدي"، السؤال 19: هل صحيح ما جاء في القرآن من أن العذراء أختَ هارون؟

وقال الدكتور بدوي: هذا موجود أيضا عند يوحنا الدمشقي في كتاب "الطوائف"، وكرره نيقولا دي كوزا، وجان أندروس، وغيرهم – وقد رد على هذا السؤال في كتابه.]

ويذكر الدكتور محمد شحرور في كتابه "الإسلام والإيمان – منظومة القيم"، الفصل الثالث: الأبوان والوالدان - الأخ والأخت، ردا على هذا السؤال، وفيه:

الأخ: الواو والخاء والحرف المعتل، كلمة تدل على سير وقصد. وهذا وخي فلان، أي سمته (ابن فارس ج6، ص95).

ونمسك بهذا الخيط لنصل إلى أن التوخي هو البحث والالتزام بالحقيقة في الأمور والظواهر، أي هو القصد الواعي. ونرى أن الأخ والأخت لا يخرجان عن هذا المعنى. فقد ورد مفهوم الأخوة في التنزيل الحكيم بمعناه الواسع العام بقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة } {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}

يجب التمييز بين الأخ بمعناها الواسع العام، وبين الأخ بمعناها الضيق الذي يقتصر على أخوة النسب وأخوة الولادة. حيث نجد الكلمة بمعناها المحدود الثاني في قوله تعالى: {واجعل لي وزيرًا من أهلي * هارون أخي} طه 29، 30.

ونلاحظ في هذه الآيات أن مفهوم الإخوة والإخوان لا يعني أبداً جمع الأخ المحرم أو الأخ الذي يرث، أي أنه لم يرد بالمعنى الأسروي للأخ والأخت، إنما بمعنى أن الإخوة يتوخى بعضهم بعضاً في الحسن كقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} أو في القبيح كقوله تعالى: {إخوان الشياطين}.

والأخت في التنزيل كالأخ والإخوان، وردت بمعنى الأخت في النسب، كما في قوله تعالى: {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله ..} طه 40. {.. وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ..} النساء 12.

ووردت بمعنى الأخت في العقيدة والسلوك بقوله تعالى: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها} الزخرف 48.

كما وردت بمعنى الكبر والحجم والمدلول بقوله تعالى: {وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها}

{يوم يفر المرء من أخيه} عبس 34. فقد يظن البعض أن الأخ والأخت مقتصران على النسب، فيسأل: كيف يفر المرء من أخيه، إن كان وحيداً، أو لم يكن له أخ؟

وهذا صحيح، لو سحب معنى الإخوة في آيات محارم النكاح والزينة والإرث على جميع آيات التنزيل الحكيم التي تضمنت هذه الكلمة، وقصره على أخوة النسب. ولكننا لا نجد أي إشكال بعد أن فصّلنا آنفاً كيف استعمل التنزيل مصطلح الأخ والأخت والإخوة في غير معنى النسب. فالمرء قد يعيش وحيداً لوالديه دون أخ أو أخت، لكنه لا يمكن أن يعيش وحيداً دون إخوة وأخوات بالمعنى الواسع العام.

ولقد وقع أحد المستشرقين، في وهم الخلط بين الأخ والأخت بالنسب، والأخ والأخت في الدين والسلوك والقصد، حين قرأ قوله تعالى: {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} مريم 28.

فأعلن أن القرآن لا يوجد فيه دقة تاريخية. فهارون أخو موسى من أمه، والمسافة الزمنية بينهما وبين مريم تبلغ حوالي ألف عام، وعليه فإن القرآن أخطأ في النسب (ينطلق المستشرق طبعا من أن القرآن من تأليف محمد).

ونقول لهذا المستشرق (والكلام للدكتور شحرور):
إن اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية تسمي رجل الدين أبا، وتسمي الراهبة أختا، فهل يفهم مستشرقنا من هذا أن راعي الكنيسة نكح أمهات الناس، فولدن له الناس وصار أباهم، وهل يفهم من هذا أن الراهبة قد ولدتها أمه فأصبحت أخته؟

لقد أوضحنا في صفحاتنا السابقة أن الوالد شيء، والأب شيء آخر، وأن الأخ والأخت في النسب شيء، وفي العقيدة والسلوك والقصد شيء آخر، فإن اعتقد مستشرقنا أن هذا ذاك، فذلك شأنه.

ولكن، إن كانت مريم في التنزيل الحكيم ليست أخت هارون بالنسب، فأخته بماذا؟ قد يقول قائل: أخت بالإنسانية، أو أخته بالإيمان بالله. نقول: فلماذا هارون بالذات؟ لماذا لم يقل يا أخت موسى، وهو الأقرب إلى معارف الناس؟

إن تحديد هارون بالذات، يدلنا على أن ثمة "توخيًا" في هارون، وتماثلا في السلوك والقصد يجمع بينه وبين مريم، فما هو؟

إذا عدنا إلى التنزيل الحكيم، ودأب منهجنا دائما العودة إليه دون غيره، نجده يرصد خبر موسى، بدءا من الولادة، في قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم} القصص 7.

ثم يتبعه في نشأته: {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما ..} القصص 14.

ثم يروي خبر قتله رجلا ممن عدوه، وتوجهه إلى مدين هاربا، وزواجه ثم سيره بأهله بعد انقضاء الأجل، ورؤيته للنار، ونزول الرسالة عليه، وتكليم ربه له.

لكننا نجد التنزيل يقدم هارون كأخ لموسى من أمه، بعد نزول الرسالة إلى موسى، أما قبل ذلك فلا ذكر له، كما نفهم من قوله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًا} و {واجعل لي وزيرًا من أهلي * هارون أخي} 

ونجد التنزيل الحكيم يذكر أم موسى، لكنه لا يذكر مطلقا أباه، أو والده، كما يذكر أن له أختاً، وذلك في قوله تعالى: {وقالت لأخته قصية فبصرت به عن جنب ..} القصص 11.

ونمضي مع التنزيل الحكيم، لنجد أن موسى وهارون ولدا في وقت كان فيه آل فرعون يستحيون نساء بني إسرائيل ويقتلون أبناءهم. وهذا سبب خوف أم موسى على وليدها. ونفهم أن سبب عدم خوف أم موسى على ابنتها، نابع من أن التقتيل كان يطال أبناء بني إسرائيل وليس بناتهم. لكننا لا نفهم أبدا سبب عدم خوف أم موسى على ابنها الثاني هارون!!

هنا ننتبه إلى أن التنزيل الحكيم ذكر صراحة أن هارون هو أخو موسى من أمه. وهذا يوضح لنا الأساس عند اليهود في اعتبار النسب للأم وليس للأب.

وحين ننطلق في إثبات من رحم الأم وليس من صلب الوالد، يتساوى لدينا الابن الشرعي والابن غير الشرعي طالما الأم واحدة، ويتساوى لدينا وليد الزواج ووليد الزنا. وكان هذا أمراً وارداً عند بني إسرائيل قبل موسى. فالزنا ونكاح المحارم جرى حظره ومنعه أول مرة في رسالة موسى، وكان متروكا للأعراف. إضافة إلى أن النسب للأب تقدم في سلم الحضارة، فاليتيم هو فاقد الأب في المجتمع المتحضر، وهو فاقد الأم في المجتمعات البهيمية أو المتخلفة حضاريا.

من هنا نستنتج أن أم موسى تعرضت لاستحياء واحد من آل فرعون، وجاء هارون نتيجة لهذا الاستحياء. أما موسى فهو ابن أمه من واحد من بني إسرائيل.
(الاستحياء هو الاغتصاب وليس الزنا).

وهذا يفسر لنا سبب خوفها على موسى وعدم خوفها على هارون. ويفسر لنا خوفها من قومها وهجرها لهم. وقدومها على آل فرعون مطمئنة على وليدها هارون.

هذا ما حصل تماما مع مريم وابنها عيسى المسيح. يوم جاءت قومها تحمله. فالقوم يعلمون أنها نقية عذراء لم تتزوج، وكان أول ما خطر ببالهم، أنهم تذكروا ظهور أم موسى وهي تحمل هارون. وهذا سبب وصفهم لها بأخت هارون.

قد يقول قائل: لو أن الأمر هكذا، لكان الأجدر بهم توجيه الخطاب والصفة إلى عيسى المسيح، فهو أخو هارون من هذه الزاوية. نقول: وهل كان قوم مريم يعلمون سلفا أن المسيح يتكلم في المهد، وأنه سيجيبهم عن سؤالهم المستنكر، إلا بعد أن أشارت إليه، وقال إني عبد الله؟

وهذا يفسر لنا قولهم لها {ما كان أبوك امرأ سوء} أي ما كان مغتصبا يستحيي النساء كما استحيا أم هارون. وقولهم {وما كانت أمك بغيا}. أي أنهم يعتقدون أن عملية بغاء قد حصلت، ولد نتيجتها عيسى.

وهذا يفسر أيضا سبب رغبة موسى، في أن يشد الله أزره بأخيه هارون، لما له من مركز عند آل فرعون ودالة عليهم باعتباره منهم. كما يفسر لنا سبب استهداف فرعون لموسى وحده باللوم دون هارون، علما أننا نتصور أن المتكلم الداعي في مجالس فرعون هو هارون وليس موسى، لقوله تعالى: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون} القصص 34. ثم لقوله تعالى: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى} طه 36.

لقد أثبت التنزيل الحكيم براءة أنبياء وغير أنبياء، ممن اصطفى من عباده نذكر منهم مريم وعائشة، من الفاحشة التي اتهمهم بها أقوامهم. لكننا نلاحظ أن براءة مريم كانت براءة رحمانية مادية دامغة، بينما كانت براءة عائشة إلهية نزلت وحيا وإخبارا من السماء. (راجع المصدر نفسه لمعرفة الفرق بين البراءة الرحمانية والبراءة الإلهية)

- يقول ابن حمص نبيل فياض عند طرحه هذه المسألة: المسألة برمتها بحاجة إلى معطيات توضيحية أخرى، قد يساعد الزمن في تقديمها.

وهذا القول لا يصدر إلا ممن عقل أن المعرفة الإنسانية تتراكم وتتطور مع الزمن، بلا تعصب ولا استعلاء.

**********
المراجع
1. محمد شحرور، الإسلام والإيمان – منظومة القيم، دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى 1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق