الخميس، 7 يونيو 2018

شحرور يثري ساحة النقد

النقد يتكلم في حين كل الفنون خرساء.‎ 
- نورثروب فراي

لقد وفرت لنا الشبكة العنكبوتية "الانترنت"، وبالأخص وسائل التواصل الاجتماعي، فرصا حقيقية لممارسة حقنا المشروع في الاطلاع وإبداء الرأي والنقد والمراجعة .. حقا إننا مقبلون على موجة معلوماتية هائلة .. وما دام القراء يشكلون جزءا من الظاهرة المعلوماتية، فإنهم جزء مهم جدا في كشف محاولات الطمس والتشويه والتخريب سواء من جانب الكاتب أو من جانب منتقديه. 

وحينما يقرر القارئ أن يمارس حقه في النقد فإنه يعلن عن مشاركته الفاعلة لأفكار الكاتب. لكن الفهم مرحلة سابقة على مرحلة النقد، وإن كانتا متلازمتين .. إلا أن الهدف من قراءة أي كتاب هو فهم أفكار الكاتب أولا؛ لذلك كان النقد متأخرا عن الفهم. ومرحلة الفهم تتطلب أن يزيح القارئ أفكاره الخاصة عن ساحة الكتاب، كي يستطيع أن يفهم وجهة نظر الكاتب والقواعد التي التزم بها والمسار الذي تبعه الكاتب ليصل إلى النتائج التي وصل إليها. ولقد قال ر. ج. كولنجوود: ليس النقد هو البحث عن نقاط الخلاف حتى لو بررها الناقد جيدا. 

ننتقل الآن إلى ملحوظات كان قد كتبها الدكتور حمزة المزيني في نقده لتأويل الدكتور محمد شحرور للحروف المقطعة، والتي كان عنوانها: "ملحوظات على تحليل د. محمد شحرور للأحرف المقطعة في بعض فواتح السور القرآنية الكريمة"*

وعلى غير المتوقع؛ فقد بدأ د. المزيني ملحوظاته بأقوال أحد المختلفين مع فكر د. شحرور (وإن كان من حسنة في ذلك، فهي أن الصيداوي قد وجد بيضة الديك، وبالتالي فأنا لن أستخدمها لتعجيز مروجي دعاية "ممكن آخذ من وقتك ثواني"). وهذه البداية تدل على اتفاق رأي د. المزيني مع رأي الصيداوي، كما أنها توحي بمدى اختلاف رأيه مع رأي د. شحرور، وبالتالي فإنني لا أتوقع أن د. المزيني قد فهم منهج د. شحرور، وقد بيّنا أن الفهم مرحلة سابقة لمرحلة النقد. 

والسؤال: ألمْ يكن الأجدر بالدكتور المزيني أن يوضح لنا منهج د. شحرور اللغوي أولا؟! وما أجمل د. المزيني لو بين لنا رأيه صراحة في الترادف، أي هل الترادف موجود في اللغة ؟! خاصة وأنه عرض لنا رأي عالم اللسانيات نعوم تشومسكي بأن اللغة نشأت لتعزيز التفكير، فهل يقبل الفكر أن يحمل لفظان مختلفان نفس المعنى؟! .. فإن كان الجواب بنعم! فكم كان الفكر يعيش في ترف حتى قبل أن يحل عليه زمن الشعراء! .. وإن كان الجواب بلا، فهذا ما بنى عليه د. شحرور منهجه اللغوي. 

ثم إن "الترادف" قد أنكره أناس وأثبته آخرون، والدكتور شحرور ليس بدعا من المنكرين، فقد سبقه ابن فارس وأبو علي الفارسي وثعلب والعسكري وغيرهم، ومن المحدثين أذكر الأستاذ محمد عنبر صاحب النظرية الجدلية في اللغة العربية (والجدلية لا تنكر الترادف، بل تنفي وجوده)، وقبلهم وبعدهم العقل يرفض الترادف، أو هكذا أزعم. وفي المقدمة التي يبدو فيها عدم فهم الصيداوي لمنهج د. شحرور ، ذكر أنه يخاف من "تفتيت" معاني القرآن الكريم، وكأنها - أي المعاني - واضحة سلفا! وكأن د. شحرور يملك قوة خارقة للاستيلاء على عقول الناس (أليس من سبق لبق؟)، وإلا فما سر خوفه؟! (وكلمة "سر" من الكلمات التي يحبها د. المزيني!) 

لقد كتب (أو نقل) د. المزيني في الصفحة 2، وذلك بعد أن أُنكر على د. شحرور إنكاره للترادف، ما نصه: "وهو ما يعني أن الذكر والقرآن والفرقان ليست كلمات مستقلة كما يقول الدكتور شحرور، بل صفات للقرآن الكريم، وهو ما يبطل تأويله كله" .. وهنا يتضح لمن له دراية بمنهج د. شحرور أن هناك لبسا في فهم المصطلحات السابقة كما عرفها د. شحرور في كتبه ومقالاته وتسجيلاته، ثم جمعها في كتابه "دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم - المنهج والمصطلحات"**، وأهم مصطلح مما ورد في ملحوظات د. المزيني هو "القرآن"، ويتجلى ذلك في التهويل من أن د. شحرور يرى أن السبع المثاني ليست جزءا من القرآن، وهنا يبدو أننا ما زلنا عالقين في مرحلة الفهم .. وحتى نفهم معنى تلك المصطلحات، فإنني أذكرها - باختصار - وهي: 

القرآن: هو مجموع الآيات المتشابهات التي تتحدث عن القوانين الكونية، وعن قوانين التاريخ والمجتمعات، وعن غيب الماضي من خلق الكون وخلق الإنسان وأنباء الأمم البائدة، وعن غيب المستقبل كقيام الساعة والنفخ في الصور والحساب والجنة والنار. 

الفرقان: هو الوصايا العشر عند موسى ومحمد والحكمة عند عيسى، وهو الصراط المستقيم في التنزيل الحكيم، وورد في الآيات / 151 – 152 – 153/ في سورة الأنعام. 

الذكِر: هو الصيغة اللغوية المنطوقة والمتعبد بها لكل آيات التنزيل الحكيم، وهي الصيغة التي تعهد الله بحفظها. 

السبع المثاني: وهي مقاطع صوتية وردت في فواتح السور، مثل: (ألم – ألمص- كهيعص – حم – طسم) تتألف من أحد عشر مقطعا صوتيا هي القاسم المشترك في الكلام الإنساني. أشار إليها النبي باسم “جوامع الكلم”، والتنزيل الحكيم باسم “أحسن الحديث”، وتشكل مع القرآن كتاب النبوة، وبهما وقع الإعجاز والتحدي.

الكتاب: هو مجموعة المواضيع التي جاءت إلى النبي محمد (ص) وحيا على شكل آيات وسور وهو ما بين دفتي المصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس. 

من الواضح الآن أن السبع المثاني ليست جزءا من القرآن، إنما تشكل السبع المثاني مع القرآن آيات النبوة في التنزيل الحكيم. 

ويسأل أو يتساءل د. المزيني في الصفحة 10 بقوله: "فهل يعني أن اللغة العربية ترسم الحد الأدنى للغات البشرية؟" وكأنه يجيب بنعم ، فيكمل: "ثم لماذا تقوم اللغة العربية في هذا الدور ؟ أهناك سر ؟ أهذا من العلوم التي قال عنها: بما أن القرآن العظيم هو نبوة محمد ﷺ والنبوة علوم، فهل هذا يعني أن السبع المثاني هي من النبوة فيها علوم ؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون محض صدفة؟"

أما لماذا اللغة العربية، فالكلام ليس عن اللغة العربية وإنما عن المقاطع الصوتية، وبالتالي فإن السؤالين عن "السر" و "الدور" لا مكان لهما. فلا توجد أسرار ولا أدوار، إنما أفكارٌ "قبلية"، وهو ما حذرنا منه منذ البداية. يبقى السؤال أو التساؤل عن السبع المثاني: أفيها علوم؟ .. والجواب حسب تأويل د. شحرور يكون بالإيجاب. وما أحسب أن محاولة د. شحرور التأويلية للسبع المثاني إلا نتيجة إيمانه بأنها تحمل مفاتيح لعلوم! قد تكون علوما قائمة مثل العلوم اللغوية واللسانيات، أو كما استنتج د. شحرور منها نظرية للمعرفة الإنسانية (ن والقلم وما يسطرون) (الذي علم بالقلم) .. ولعل الأمر اتضح الآن أنه ليس محض صدفة! .. فالصدفة -كما يعرفها د. شحرور- "موقف معرفي إنساني، أما في الطبيعة فلا توجد صدف، بل يوجد قوانين حتمية في الكليات وقوانين احتمالية في الجزئيات". ⁧

أما ما ذكره د. المزيني فيما يخص لغة بيراها Pirahã ، فأنا أتفق معه فيما ذهب إليه، وهو أن تأويل د. شحرور لمعنى العدد 11، وهو أن أي لغة إنسانية لا بد أن تحتوي على الأقل 11 مقطعا صوتيا، أقول إن تأويله هنا خاطئ، اعتمادا على كلام د. المزيني. كما أنني أتفق معه في أنه يجب على الكاتب أن يرجع إلى الدراسات والكتب المتخصصة في نفس المجال الذي يستقي منه معلوماته.

لكن، وبعد أن قرأت ملحوظات د. المزيني، والتي نال فيها من تأويل د. شحرور للحروف المقطعة في كتابه الأول "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة"، طبعة الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع"، أي الطبعة الأولى 1990م، وقد استعان د. المزيني في ملحوظاته بمراجع عدة منها ما طبع عام 2018 وعام 2017 (أي بعد أكثر من ربع قرن على طبعة كتاب د. شحرور)، ومنها ما طبع عام 2009 (وهذا المرجع يعتبر من الأحداث بمعنى أنه لم يتجاوز العشرين عاما) وأقرب تلك المراجع من كتاب د. شحرور، كان قد طبع عام 2006 (لن أذكر أنه استعان بكتاب ما يزال في طريقه للنشر حتى لا يساء فهمي) .. والسؤال: أليس من الأفضل أن يستعين د. المزيني بمراجع علمية طُبعت قبل عام 1990 لينتقد كتابا طبع في نفس العام؟ .. هذا أدنى ما يفرضه علينا النقد التاريخي، أما أعلى ما يؤكد عليه النقد فهو التعاطف مع المنتقَد. 

ولعلي أؤكد أن تلك الملحوظات التي ذكرها د. المزيني وغيرها، لا تهدم بنيانا شيده د. محمد شحرور في أكثر من 40 عاما، وهو الذي دائما ما يؤكد أن قراءة التنزيل الحكيم يجب أن تكون عصرية، فكل عصر يجب أن يقرأ التنزيل الحكيم بوسائله المعرفية، أي بما توصل إليه من معارف تعين أهله على قراءته قراءة عصرية، كما أن هذا لا يعني أن د. شحرور معصوم عن الخطأ أو أن منهجه باقٍ إلى قيام الساعة .. كلا، فتأويل د. شحرور للتنزيل الحكيم يبقى ضمن محدودية الجهد البشري الذي يعتريه النقص والخطأ، وهذا ما وضحه د. المزيني في ملحوظاته.  

وفي الختام أرسل تحية طيبة للدكتور حمزة المزيني، والذي أكد أن النقد يتكلم .. وإني لأعتقد أن أفضل مشاركة للكاتب في تجربته تكمن في تفاعل القراء مع ما يكتبه .. وأما الذي حُرم النقد "فعاش وما واساه في العيش واحد" على حد تعبير المازني. 
*****

الإشارات:
* ملحوظات د. حمزة المزيني https://t.co/kUMmy4FdWl?amp=1
** محمد شحرور، دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم - المنهج والمصطلحات، دار الساقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2016.

هناك تعليق واحد:

  1. طبت وطاب صباحك ..
    يبدو أنني وجدت في كتب د. شحرور أجوبة لأسئلة كثيرة. كما أن تأويل د. شحرور لكثير من الآيات القرآنية يتوافق مع ما نعتقده في الدين ، مثلا: الرحمة، وتقديس الحياة، ... وهو يستفيد مما توصل إليه العلم من معارف في تأويله.
    وأحيانا نريد أن نقول للآخرين أن هناك رأيا آخر.

    ردحذف