الخميس، 7 يونيو 2018

شحرور يثري ساحة النقد

النقد يتكلم في حين كل الفنون خرساء.‎ 
- نورثروب فراي

لقد وفرت لنا الشبكة العنكبوتية "الانترنت"، وبالأخص وسائل التواصل الاجتماعي، فرصا حقيقية لممارسة حقنا المشروع في الاطلاع وإبداء الرأي والنقد والمراجعة .. حقا إننا مقبلون على موجة معلوماتية هائلة .. وما دام القراء يشكلون جزءا من الظاهرة المعلوماتية، فإنهم جزء مهم جدا في كشف محاولات الطمس والتشويه والتخريب سواء من جانب الكاتب أو من جانب منتقديه. 

وحينما يقرر القارئ أن يمارس حقه في النقد فإنه يعلن عن مشاركته الفاعلة لأفكار الكاتب. لكن الفهم مرحلة سابقة على مرحلة النقد، وإن كانتا متلازمتين .. إلا أن الهدف من قراءة أي كتاب هو فهم أفكار الكاتب أولا؛ لذلك كان النقد متأخرا عن الفهم. ومرحلة الفهم تتطلب أن يزيح القارئ أفكاره الخاصة عن ساحة الكتاب، كي يستطيع أن يفهم وجهة نظر الكاتب والقواعد التي التزم بها والمسار الذي تبعه الكاتب ليصل إلى النتائج التي وصل إليها. ولقد قال ر. ج. كولنجوود: ليس النقد هو البحث عن نقاط الخلاف حتى لو بررها الناقد جيدا. 

ننتقل الآن إلى ملحوظات كان قد كتبها الدكتور حمزة المزيني في نقده لتأويل الدكتور محمد شحرور للحروف المقطعة، والتي كان عنوانها: "ملحوظات على تحليل د. محمد شحرور للأحرف المقطعة في بعض فواتح السور القرآنية الكريمة"*

وعلى غير المتوقع؛ فقد بدأ د. المزيني ملحوظاته بأقوال أحد المختلفين مع فكر د. شحرور (وإن كان من حسنة في ذلك، فهي أن الصيداوي قد وجد بيضة الديك، وبالتالي فأنا لن أستخدمها لتعجيز مروجي دعاية "ممكن آخذ من وقتك ثواني"). وهذه البداية تدل على اتفاق رأي د. المزيني مع رأي الصيداوي، كما أنها توحي بمدى اختلاف رأيه مع رأي د. شحرور، وبالتالي فإنني لا أتوقع أن د. المزيني قد فهم منهج د. شحرور، وقد بيّنا أن الفهم مرحلة سابقة لمرحلة النقد. 

والسؤال: ألمْ يكن الأجدر بالدكتور المزيني أن يوضح لنا منهج د. شحرور اللغوي أولا؟! وما أجمل د. المزيني لو بين لنا رأيه صراحة في الترادف، أي هل الترادف موجود في اللغة ؟! خاصة وأنه عرض لنا رأي عالم اللسانيات نعوم تشومسكي بأن اللغة نشأت لتعزيز التفكير، فهل يقبل الفكر أن يحمل لفظان مختلفان نفس المعنى؟! .. فإن كان الجواب بنعم! فكم كان الفكر يعيش في ترف حتى قبل أن يحل عليه زمن الشعراء! .. وإن كان الجواب بلا، فهذا ما بنى عليه د. شحرور منهجه اللغوي. 

ثم إن "الترادف" قد أنكره أناس وأثبته آخرون، والدكتور شحرور ليس بدعا من المنكرين، فقد سبقه ابن فارس وأبو علي الفارسي وثعلب والعسكري وغيرهم، ومن المحدثين أذكر الأستاذ محمد عنبر صاحب النظرية الجدلية في اللغة العربية (والجدلية لا تنكر الترادف، بل تنفي وجوده)، وقبلهم وبعدهم العقل يرفض الترادف، أو هكذا أزعم. وفي المقدمة التي يبدو فيها عدم فهم الصيداوي لمنهج د. شحرور ، ذكر أنه يخاف من "تفتيت" معاني القرآن الكريم، وكأنها - أي المعاني - واضحة سلفا! وكأن د. شحرور يملك قوة خارقة للاستيلاء على عقول الناس (أليس من سبق لبق؟)، وإلا فما سر خوفه؟! (وكلمة "سر" من الكلمات التي يحبها د. المزيني!) 

لقد كتب (أو نقل) د. المزيني في الصفحة 2، وذلك بعد أن أُنكر على د. شحرور إنكاره للترادف، ما نصه: "وهو ما يعني أن الذكر والقرآن والفرقان ليست كلمات مستقلة كما يقول الدكتور شحرور، بل صفات للقرآن الكريم، وهو ما يبطل تأويله كله" .. وهنا يتضح لمن له دراية بمنهج د. شحرور أن هناك لبسا في فهم المصطلحات السابقة كما عرفها د. شحرور في كتبه ومقالاته وتسجيلاته، ثم جمعها في كتابه "دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم - المنهج والمصطلحات"**، وأهم مصطلح مما ورد في ملحوظات د. المزيني هو "القرآن"، ويتجلى ذلك في التهويل من أن د. شحرور يرى أن السبع المثاني ليست جزءا من القرآن، وهنا يبدو أننا ما زلنا عالقين في مرحلة الفهم .. وحتى نفهم معنى تلك المصطلحات، فإنني أذكرها - باختصار - وهي: 

القرآن: هو مجموع الآيات المتشابهات التي تتحدث عن القوانين الكونية، وعن قوانين التاريخ والمجتمعات، وعن غيب الماضي من خلق الكون وخلق الإنسان وأنباء الأمم البائدة، وعن غيب المستقبل كقيام الساعة والنفخ في الصور والحساب والجنة والنار. 

الفرقان: هو الوصايا العشر عند موسى ومحمد والحكمة عند عيسى، وهو الصراط المستقيم في التنزيل الحكيم، وورد في الآيات / 151 – 152 – 153/ في سورة الأنعام. 

الذكِر: هو الصيغة اللغوية المنطوقة والمتعبد بها لكل آيات التنزيل الحكيم، وهي الصيغة التي تعهد الله بحفظها. 

السبع المثاني: وهي مقاطع صوتية وردت في فواتح السور، مثل: (ألم – ألمص- كهيعص – حم – طسم) تتألف من أحد عشر مقطعا صوتيا هي القاسم المشترك في الكلام الإنساني. أشار إليها النبي باسم “جوامع الكلم”، والتنزيل الحكيم باسم “أحسن الحديث”، وتشكل مع القرآن كتاب النبوة، وبهما وقع الإعجاز والتحدي.

الكتاب: هو مجموعة المواضيع التي جاءت إلى النبي محمد (ص) وحيا على شكل آيات وسور وهو ما بين دفتي المصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس. 

من الواضح الآن أن السبع المثاني ليست جزءا من القرآن، إنما تشكل السبع المثاني مع القرآن آيات النبوة في التنزيل الحكيم. 

ويسأل أو يتساءل د. المزيني في الصفحة 10 بقوله: "فهل يعني أن اللغة العربية ترسم الحد الأدنى للغات البشرية؟" وكأنه يجيب بنعم ، فيكمل: "ثم لماذا تقوم اللغة العربية في هذا الدور ؟ أهناك سر ؟ أهذا من العلوم التي قال عنها: بما أن القرآن العظيم هو نبوة محمد ﷺ والنبوة علوم، فهل هذا يعني أن السبع المثاني هي من النبوة فيها علوم ؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون محض صدفة؟"

أما لماذا اللغة العربية، فالكلام ليس عن اللغة العربية وإنما عن المقاطع الصوتية، وبالتالي فإن السؤالين عن "السر" و "الدور" لا مكان لهما. فلا توجد أسرار ولا أدوار، إنما أفكارٌ "قبلية"، وهو ما حذرنا منه منذ البداية. يبقى السؤال أو التساؤل عن السبع المثاني: أفيها علوم؟ .. والجواب حسب تأويل د. شحرور يكون بالإيجاب. وما أحسب أن محاولة د. شحرور التأويلية للسبع المثاني إلا نتيجة إيمانه بأنها تحمل مفاتيح لعلوم! قد تكون علوما قائمة مثل العلوم اللغوية واللسانيات، أو كما استنتج د. شحرور منها نظرية للمعرفة الإنسانية (ن والقلم وما يسطرون) (الذي علم بالقلم) .. ولعل الأمر اتضح الآن أنه ليس محض صدفة! .. فالصدفة -كما يعرفها د. شحرور- "موقف معرفي إنساني، أما في الطبيعة فلا توجد صدف، بل يوجد قوانين حتمية في الكليات وقوانين احتمالية في الجزئيات". ⁧

أما ما ذكره د. المزيني فيما يخص لغة بيراها Pirahã ، فأنا أتفق معه فيما ذهب إليه، وهو أن تأويل د. شحرور لمعنى العدد 11، وهو أن أي لغة إنسانية لا بد أن تحتوي على الأقل 11 مقطعا صوتيا، أقول إن تأويله هنا خاطئ، اعتمادا على كلام د. المزيني. كما أنني أتفق معه في أنه يجب على الكاتب أن يرجع إلى الدراسات والكتب المتخصصة في نفس المجال الذي يستقي منه معلوماته.

لكن، وبعد أن قرأت ملحوظات د. المزيني، والتي نال فيها من تأويل د. شحرور للحروف المقطعة في كتابه الأول "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة"، طبعة الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع"، أي الطبعة الأولى 1990م، وقد استعان د. المزيني في ملحوظاته بمراجع عدة منها ما طبع عام 2018 وعام 2017 (أي بعد أكثر من ربع قرن على طبعة كتاب د. شحرور)، ومنها ما طبع عام 2009 (وهذا المرجع يعتبر من الأحداث بمعنى أنه لم يتجاوز العشرين عاما) وأقرب تلك المراجع من كتاب د. شحرور، كان قد طبع عام 2006 (لن أذكر أنه استعان بكتاب ما يزال في طريقه للنشر حتى لا يساء فهمي) .. والسؤال: أليس من الأفضل أن يستعين د. المزيني بمراجع علمية طُبعت قبل عام 1990 لينتقد كتابا طبع في نفس العام؟ .. هذا أدنى ما يفرضه علينا النقد التاريخي، أما أعلى ما يؤكد عليه النقد فهو التعاطف مع المنتقَد. 

ولعلي أؤكد أن تلك الملحوظات التي ذكرها د. المزيني وغيرها، لا تهدم بنيانا شيده د. محمد شحرور في أكثر من 40 عاما، وهو الذي دائما ما يؤكد أن قراءة التنزيل الحكيم يجب أن تكون عصرية، فكل عصر يجب أن يقرأ التنزيل الحكيم بوسائله المعرفية، أي بما توصل إليه من معارف تعين أهله على قراءته قراءة عصرية، كما أن هذا لا يعني أن د. شحرور معصوم عن الخطأ أو أن منهجه باقٍ إلى قيام الساعة .. كلا، فتأويل د. شحرور للتنزيل الحكيم يبقى ضمن محدودية الجهد البشري الذي يعتريه النقص والخطأ، وهذا ما وضحه د. المزيني في ملحوظاته.  

وفي الختام أرسل تحية طيبة للدكتور حمزة المزيني، والذي أكد أن النقد يتكلم .. وإني لأعتقد أن أفضل مشاركة للكاتب في تجربته تكمن في تفاعل القراء مع ما يكتبه .. وأما الذي حُرم النقد "فعاش وما واساه في العيش واحد" على حد تعبير المازني. 
*****

الإشارات:
* ملحوظات د. حمزة المزيني https://t.co/kUMmy4FdWl?amp=1
** محمد شحرور، دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم - المنهج والمصطلحات، دار الساقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2016.

السبت، 24 مارس 2018

دردشة مع الأديب نجيب سرور


صادفت الأديب الكبير نجيب سرور، أستاذ الأدب والفن والمسرح .. الأديب الشاعر والمسرحي الكاتب والمخرج والممثل .. الفنان والناقد والثائر والمتمرد. وقد عبرت له عن رغبتي في أن أعرف منه رأيه في موضوعات تخص الأدب والفن، فبدأنا بالشعر .. أوليس في البدء كانت الكلمة ؟! .. وبين المستهل والختام .. كلمات ضاق بها المقام .. وكما لا نحب إطالة الكلام .. حتى لو هدف إلى التمام .. فإنه لا يصح أن نضع الكمام .. إذ الحديث جدّ هام .. ولا أن نصم الآذان .. حتى لا يصيبنا الخرس ! .. بادرته - كما يحب - بلا شكليات:

أنا: ما الشعر ؟
سرور: الشعر .. إعلان عن تناقض يقوم عليه بناء اجتماعي.

أنا: الشعر إعلان ! هل لك أن توضح أكثر ؟
سرور: الشعر تأكيد وتجسيد لتناقض صادرين عن وعي يقظ للواقع .. وتعبير عن حاجة عامة لا عن حاجة فردية .. وتعبير عن حاجة إنسانية بمعنى الكلمة الراقي لا عن حاجة فطرية .. فالشعر عملية ذهنية شاقة في بناء المضمون والشكل على السواء .. وهو رؤى يكمن وراءها التلقي والتمثل والفهم والمعرفة للعالمين الطبيعي والاجتماعي .. والشعر كما قال أبو تمام صوت العقل.
"العالم فوق الشعراء ..
فليعل الشعر إلى العالم
أو فلنصمت !!"

أنا: إذن الشعر صرخة تعبر عن حاجة إنسانية، تصدر عن وعي بالواقع الاجتماعي، صرخة ملؤها الوعي، وعي الفرد بنفسه وبمجتمعه وبعصره وبدوره التاريخي وبالعالم المحيط به، والشعر يعري الواقع وينأى عن "الأنا" المنتفخة التافهة، فكيف تفسر إذن المديح والهجاء والفخر؟!
سرور: نعم .. إن أعذب الشعر أصدقه .. لذا يجب أن يقف الشاعر إلى جانب الواقعية والعقلانية والصدق في الشعر .. أما من يكتب الآن في أنماط الشعر الميتة المتعفنة كالمديح والهجاء والفخر .. فإنه ميت يضاف إلى الموميات ! إنها جميعا أشكال شعرية من نتاج مجتمعات معينة. فالمديح لا يعيش إلا في مجتمعات الملق والرياء والتزلف والتمسح .. مجتمعات تحيا على المتناقضات: (الغنى والفقر، الألوهية والعبودية، الجاه والهون، القوة والضعف، الخ) .. وفي هذه المجتمعات يعيش الهجاء فهو لا يقوم على غير الحقد والحسد والضغينة – الافراز الطبيعي لمجتمع المتناقضات – التي تعمل مثل هذه المجتمعات على تغذيتها في نفس كل فرد من أفرادها .. وفي نفس هذه المجتمعات يعيش الفخر .. لينبع الفخر من مراحيض "الأنا" التي لا تعبد إلا ذاتها ولا تتصل بالآخرين إلا من خلال التعالي والفوقية مرتسمة على ملامحها علامات التأنف والاشمئزاز من الآخرين.
"لا يضير الشعر أن يصبح خبزا للجياع ،
لكن يضار الشعر أن أصبح فأرا في المجاعة !"

أنا: إذن، المجتمع المريض يفرز شعرا مريضا، فما تقول في مَن يعقد الصلة بين المرض والفقر والألم من جهة والإبداع والعبقرية في الجهة المقابلة ؟
سرور: (تنهيدة) لا يزال من المثقفين عندنا من يؤكدون لزوم الفقر لإمكان وجود العبقرية ولزوم الألم لإمكان الإبداع .. ولم يخطر لهم أن يسألوا أنفسهم في مقابل العبقري الذي ظهر وأفلت من الفقر .. كم من العباقرة قتلهم الفقر ؟!! .. ثم هذا الربط بين الفن والجنون .. بين الفن والمرض هو النهاية المحتومة لخط أيديولوجي معين. فمنتوجات المرض هي الفن المريض .. أما منتوجات الجنون فهي شيء يجلب للناس الجنون ويعمل على إشاعته .. أما نحن فنقول إن الفنان هو أكثر الناس حساسية وسلامة عقل وسواء نفس.

أنا: "الفن" .. "الشعر" .. هذا يذكرنا بكتاب أرسطو "فن الشعر" .. ما الذي استوقفك في هذا الكتاب ؟!
سرور: إن أخطر ما في كتاب أرسطو هو المعنى الذي يقف وراء مصطلحي: التطهير والمحاكاة .. ثم تأتي تلميحاته وألغامه وألغازه المنتشرة في صفحاته؛ مثل قوله: إن قوة المأساة تظل من غير مشاهدين ومن غير ممثلين. وكذلك قوله: إن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع.

أنا: "الشعر" و "الرواية" .. هل هناك علاقة بين الشعر والتاريخ ؟!
سرور: ذكر أرسطو في كتابه السابق العلاقة بين الشعر والتاريخ، إذ قال: "إن الشعر أوفر حظا من الفلسفة، وأسمى مقاما من التاريخ". وهذا يعني أن مضمون العمل الشعري يحتوي على عناصر تاريخية، دون أن يصبح هو مجرد تاريخ. أو لنقل إن الشاعر يقوم بدور المؤرخ، ولكن بطريقته ووسائله وأدواته الخاصة.

أنا: التاريخ والشعر، ماذا عن نسبة الشعر العربي إلى إبليس من قبل أبي العلاء المعري (أو كما سميته أنت مرة أبي العلاء المصري!) ؟
سرور: إن نسبة الشعر العربي إلى إبليس وجنوده تشكيك ما بعده تشكيك في التراث الشعري كله. ألم تسمع قول أبي العلاء المعري:
وكيف أرجي من زماني زيادة
وقد حذف الأصلي حذف الزوائد

وقوله:
تلوا باطلا وجلوا صارما
وقالوا صدقنا فقلنا نعم

ولك أن تقرأ حديث ابن القارح مع حمزة بن عبد المطلب في رسالة الغفران .. بل يجب أن تقرأ رسالة الغفران، حتى تفهم أن الشك هو الشيء الوحيد الذي لا شك فيه !

"غلب المَيْن مذ كان على الخلق وماتت بغيظها الحكماء"

أنا: فما تظن بالأدب الشعبي: ألف ليلة وليلة والزير وعنترة والملك القاهر والملك سيف بن ذي يزن وغيرها ؟
سرور: هذه أقاصيص مما يوسم خطأ بالشعبية ! لأنها ظهرت مع ظهور محترفي الأدب الذين انفصلوا عن الجماهير العاملة وارتبطوا بالطبقة الحاكمة فعبروا من خلال هذه الأقاصيص عن الأفكار والمفاهيم التي يراد لها أن ترسخ في أذهان المحكومين .. إذن في الأدب الشعبي نوعين من الأدب .. أولهما أدب السلطة وهو يعبر عن حياة السادة ويشبع نزوعهم إلى الترف والمتعة، ثم هو يبرر هذه الحياة ويحميها، وأديب السلطة يسميه الشعب بـ "الأدباتي" .. والنوع الثاني في الأدب الشعبي هو أدب المسودين الذي يعبر عن حياتهم ويتمرد على السادة وعلى التمايز والتصاعدية. 

أنا: وماذا عن المثقفين العرب ؟
سرور: يجب على المثقف العربي أن يفرق بين ثقافة الكلمات المتقاطعة والثقافة الحقيقية كنظرية ومنهج ورؤية على المستويين الوجداني والعقلي. ويجب أن يكف المثقفون الجهلاء عن لعبة التبعية أو لعبة الخيانة أو لعبة الوصاية والولاية أو لعبة السمسرة واستعرض العضلات الثقافية، وأن يقرأوا كثيرا، ولكن الأهم من ذلك أن يفهموا كثيرا مما يقرأون كما قلت للمرة المليون !

أنا: إذن، ينقص مثقفونا القراءة والفهم وما ينتج عن ذلك من وعي، والوعي كما تقول أيها النجيب بناء يحتاج لنظرية أو منهج يتبعه السائر في طريق الثقافة، فهل هذا يكفي ؟
سرور: إن ثقافة الكاتب أصبحت اليوم تقاس بدرجة وعيه بالارتباط العضوي بين الظاهرة ومجالها الإجتماعي لكي يمكن أن تكون الثقافة حالة حيوية حركية متطورة لا سكونية جامدة تعتمد على آلاف المجلدات المرصوصة على الرفوف.

أنا: سؤال خارج الأدب والفن والمسرح ! هل ما زلت تؤمن بنظرية المؤامرة ؟ وإن كنتَ كذلك؛ فعلى من تحاك هذه المؤامرة .. على الشعراء .. أم على العرب .. أم عليك أنت ؟!
سرور: إن هذا السؤال في صلب الموضوع الذي نتحدث فيه .. بل إن التماس إجابة هذا السؤال يترتب عليه فهم ما وصلنا إليه اليوم وما أريد ويراد لنا وفي أي درب نسير. إن الحرب على الشعر والشعراء - صوت الشعوب - قديمة قدم السلطة .. قدم الطبقية في المجتمع ! وهي قديمة على العرب تمتد إلى تنظيم أول محفل يهودي صهيوني ماسوني في بابل وآشور حتى لقاءنا هذا. أما أنا فانظر إلى كتبي ! .. كم المطبوع منها ؟ .. كم المنشور منها على الأرفف وفي الانترنت ؟ .. كم الذين يقرأونها ؟ .. ثم كم من الذين يقرأونها ينشرونها ؟!

أنا: بما أنها مؤامرة فهي خفية إلا على ذوي الأبصار، ولكن حتى الذين ينكرونها لا يملكون تفسيرا آخر لما حدث ويحدث للعالم العربي ! هل من شيء عالق في ذاكرتك ؟
سرور: أربع صور:

الأولى: لافتة علقها أحد أصحاب المطاعم بالقاهرة كتب عليها: "يا ربّ .. كفاني عزا أن أكون لك عبدا"  

الثانية: يقول أبو العلاء المعري:
إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء

الثالثة: يقول بايرون: "الحرب مقدسة فقط إذا كانت من أجل الحرية، أما عندما تكون مجرد ثمرة للطموح؛ فمن ذا الذي لا يسميها جزارة ؟!"

الرابعة:  
"والناس من هول الحياة .. 
موتى على قيد الحياة !"

أنا: هل ما زلت يائسا من الواقع العربي ؟
سرور: أنا يائس إلا من رحمة الله .. و "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر !!

أنا: كلمة قبل أن ننتقل إلى الفنان المسرحي نجيب سرور.
سرور: مهمة شاقة تلك مهمة الشاعر، مهمة أشق مهمة الشاعر الضمير، ومهمة أكثر مشقة مهمة الشاعر الضمير للشعب، ومهمة تتجاوز حدود الاحتمال تلك مهمة الشاعر الضمير للشعب وللعصر وللإنسانية .. وعلى الشعراء أن يكونوا - بتعبير شكسبير - "خلاصة تاريخ العصر" لا أن يصيروا "نفاية تاريخ العصر" !!
***

الأربعاء، 7 مارس 2018

طلقة بوشكين


كل المنسوب إلى الصدف مدبر ..
كي يبدو من فعل الصدفة ..
- نجيب سرور

يحدث أن ينظر المرء إلى واقعه بعين خياله فيعكس الواقع في مرآة الفن أو الأدب، ليقدم تحفة فنية أو عملا أدبيا خالدا .. يحدث هذا، لكن أن يذهب المرء بخياله إلى مستقبله الذي سيكون واقعه في قادم الأيام؛ فهذا ما تقوله لنا أحداث حياة أمير الشعراء الروس ألكسندر سيرغيفيتش بوشكين.


ولد ألكسندر بوشكين في 26 أيار 1799، درس في المدرسة الليسيه وتخرج منها عام 1817، نظم خلال دراسته قصائد تعبر عن الحب والصداقة والإخلاص وكتب قصائد وطنية. ولا شك أنه تأثر بالحرب الروسية — الفرنسية التي امتدت ما بين عامي 1805 - 1814، والتي استطاع خلالها نابليون بونابرت احتلال موسكو عام 1812.


في عام 1818 نظم بوشكين قصيدة "الحرية"، الحرية التي كان الشعب الروسي يناضل من أجلها، يقول فيها:

ألا ابتعدي عن طريقي
يا ربة الأوتار الخافتة
أين أنتِ، أين أنت أيتها العاصفة الرجولية
يا مغنية الحرية الفخورة ؟
اقتربي ومزقي اكليلي
وحطمي قيثارتي الناعمة
أريد أن أتغنى الحرية الإنسانية
وأفضح الرذيلة في عروشها

ومن ثم نظم قصيدة "إلى تشادييف"، والتي يرى فيها أن الحرية تؤخذ ولا تعطى، تؤخذ بدماء أبناء الشعب المخلصين في سبيل مقاومة الطغاة الظالمين. وبعد ذلك نظم بوشكين قصيدة "القرية" 1819، والتي يقول فيها:

أتراني أرى شعبنا، يا أصدقائي، وقد تحرر
من جور العبودية بأمر من القيصر ؟
أولم يحنْ لفجر الحرية الوطيئة الرائع
أن يشرق على وطننا أخيرا ؟


بدأت كلمات بوشكين تجد صدى في قلوب الناس، وتلقى استجابة واستحسانا بين الشباب، الذين أصبحوا يرددون أشعاره، ولما أن عرف القيصر ألكسندر الأول بهذه القصائد، حتى قرر نفي بوشكين، ذلك أن أكثر ما يخافه الطغاة هو ذا: وعي المجتمع بالحرية والعدالة الاجتماعية وإدراك أفراده للظلم الواقع عليهم. لقد نفي بوشكين "ابن الحظ البائس المنبوذ" إلى الجنوب 1820، حتى يظل صوت الشعب بعيدا عن مسامعهم. 

نُفي بوشكين — ودائما ما يدفع الإنسان الثمن ! — وما إن وصل إلى منفاه حتى مرض، فنقل إلى القرم، وهناك حيث لا يجرؤ على المغامرة سوى الرياح وبوشكين، نظم قصيدة "الخنجر" والتي نادى فيها بضرورة الثورة الدموية على الأوضاع البائسة، ولعله كان متأثرا بأفكار الديسمبريين.


نظم بوشكين قصيدة "نافورة باختشي ساراي" متأثرا بجمال طبيعة القرم. انتقل إلى أوديسا 1823، وهناك أكمل الفصول الثلاثة الأولى من قصيدته الشهيرة "يفغيني أونيغين"، قبل أن يأمر ألكسندر الأول بنفيه إلى ميخايلوفسكي، حيث "كل شيء هادئ" نعمَ فيها بحياة هادئة، استزاد من القراءة و أكثر على الحكايات الشعبية. "مباركٌ، مَن في وحدته .. حفظ أجمل مخلوقاتها". وفي منفاه الجديد، نظم قصيدة "الغجر"، وتراجيديا "بوريس غودونوف" الشعبية، التي قرر فيها أن الشعب هو الذي يصنع التاريخ وليس الأفراد (وما الابتعاث منا ببعيد!). كما نظم تسع قصائد عنونها بـ "قبسات من القرآن".


في ديسمبر 1825، قامت حركة الديسمبريين، أي بعد وفاة ألكسندر الأول وقبل تتويج نيقولا الأول، إلا أنها باءت بالفشل. تردد القيصر الجديد في أمر بوشكين، فأرسل من يتجسس أحواله! كتب رجل البوليس في تقريره أن الشاعر يعيش حياة هادئة ويقترب كثيرا من الفقراء، ولا يوجد دليل على تمرده. بعد هزيمة أصدقائه الديسمبريين، توصل بوشكين إلى قناعة مفادها أن الاصلاح يجب أن يكون بطريقة سلمية.


في عام 1831 ترى روايته الشعرية "يفغيني أونيغين" النور، وقد استغرقت ثماني سنوات. بعد ذلك كتب بوشكين تراجيديا موتسارت وساليري وتراجيديا الضيف الحجري. يقول بوشكين في "يفغيني أونيغين":

من عاش وفكر لا بد
أن يحتقر الناس في قرارة نفسه
ومن كان ذا إحساس لا بد
أن يقلقه شبح الأيام التي لن تعود،
لا بد أن يعزف عن المباهج،
لا بد أن تلسعه أفعى الذكريات
وأن يتآكله الندم ..

نشر بوشكين مجموعة قصص عام 1831، أي في العام الذي تزوج فيه بالسيدة الجميلة ناتاليا جونشاروفا. في قصة "الطلقة"، كتب بوشكين عن مبارزة بين اثنين من أفراد الجيش الروسي، أحدهما سيلفيو والآخر هو الكونت. وقد كانت المبارزة في القرن التاسع عشر عن طريق إطلاق النار! في اللقاء الأول بينهما، أخطأ الكونت التصويب، فبدلا من سيلفيو أصاب قبعته. جاء دور سيلفيو، وعندما همّ بإطلاق النار، كان خصمه (الكونت) غير مبالٍ بحياته، حيث كان يأكل الكرز لافظا النوى باتجاه سيلفيو، أنزل المسدس، وقال للشهود: لا أنوي إطلاق النار اليوم! استقال سيلفيو من الخدمة، وهجر البلدة. تمضي خمس سنوات قبل أن يأتي سيلفيو خبر زواج الكونت من حبيبته، إنها فرصة سيلفيو للانتقام، لرد الشرف. يذهب سيلفيو لمقابلة غريمه، ويفاجأ الكونت بسيلفيو أمامه! أعطى سيلفيو الكونت فرصة ثانية لإطلاق النار أولا، وللمرة الثانية يخطئ الكونت الهدف!  

إن كان الكونت قد أخطأ سيلفيو وأصاب قبعته، فإنه من غير المتوقع أبدا أن يخطئ سيلفيو إصابة الكونت، فقد كان يتدرب يوميا على إطلاق الرصاص طيلة الخمس سنوات، لكن سيلفيو لم يكن هدفه أن يقتل الكونت! فعندما سأله الكونت: هل ستطلق النار أم لا؟ وكانت زوجته تتوسل سيلفيو أن لا يصوب زوجها .. أجاب سيلفيو: لا ، لن أطلق. لقد رأيت اضطرابك ووجلك، وهذا يكفي. ستتذكرني، واتركك لضميرك !!


لا شك أن سيلفيو شعر بعدها بالارتياح، ولكن ما مغزى ذكر هذه القصة بالذات؟! هل كانت الأقدار حبلى بمصيرٍ لبوشكين يماثل مصير إحدى شخصيات قصته ؟!


اعتبرت الحكومة القيصرية أن أشعار بوشكين لعبت دورا تحريضيا في الحركة الديسمبرية، لذا استدعى القيصر نيقولا الأول بوشكين، وسأله عما كان سيفعله فيما لو كان موجودا في سانت بطرسبورغ في 14 ديسمبر، فأجاب بوشكين: "كنت انضممت إلى صفوف المتمردين!" أعلن القيصر أنه شخصيا سيشرف على مراجعة أعماله قبل نشرها! ظلت علاقة بوشكين والقيصر في حالة توتر (توتر بين فعل الاستبداد وصوت الحرية)، وباتت كتاباته خاضعة لرقابة خانقة، إضافة إلى هجوم النقاد والصحافة الخاضعة للحكومة عليه، مع ما كان يقابله من عداء من جانب رجال البلاط. عشية رأس سنة 1834، منح القيصر بوشكين لقب نبيل مما أثار غضبه واستياءه، فهذا لقب يمنح للصغار، ثم أن هذا اللقب سيجعله يتردد على الحفلات الرسمية ليس بمفرده بل مع زوجته الجميلة، التي تحب الرقص والحفلات !! .. وهذا مما زاد حمل النفقات عليه، كذلك مُنع من قراءة أعماله الجديدة على أي شخص قبل مرورها على الرقابة، ومن أعماله التي كتبها بعد زواجه روايتي "دوبروفسكي" و "ابنة الآمر"؛ ومسرحيات تراجيدية قصيرة مثل مسرحية "الفارس البخيل"، كما نظم قصيدة "الفارس البرونزي"، القصيدة التي لم يسمح القيصر بطباعتها ! .. هكذا يتم اغتيال الأحرار معنويا. لقد ضيقت القيصرية الخناق عليه، ومما زاد الأمر سوءا؛ انتشار شائعات بأن زوجته غير مخلصة له، وأنها على علاقة بالضابط الفرنسي دانتس. وخلال تلك الفترة، كان بوشكين وأصدقاؤه يتلقون رسائل غير موقعة مليئة بالقذف والشتائم لتشويه سمعته .. تثار الأقاويل ضده، ويتآمر الخصوم عليه، فتمتلئ روحه مرارة. لقد كانت خطة مدبرة من قبل القيصر والقيصرية لاغتيال صوت الشعب، خطة تبدو كما لو كانت من وحي الصدفة [كل المنسوب إلى الصدف مدبر .. كي يبدو من فعل الصدفة]. لم يحتمل بوشكين ذلك، فالقلب يعتصر غضبا "والعار كالمطرقة يدق الأذن"، فدعا غريمه دانتس للمبارزة بالمسدسات دفاعا عن شرفه .. ها قد نجحت الخطة!! وتمت المبارزة في 27 كانون الثاني 1837، وأصيب بوشكين في هذه المبارزة بجرح ظل ينزف ليومين .. فهل كان بالإمكان علاج جرحه؟ وهل كان بالإمكان إنقاذ حياته؟ لكن كيف يتم إنقاذه إذا كان موته هو المطلوب؟! بعد يومين، في 29 كانون الثاني 1837، غابت شمس بوشكين، لكن كلماته ما زالت تضيء العقول بنورها.


هكذا كانت الطلقة سببا في موت بوشكين. هكذا تخبرنا الوقائع أن الواقع أكثر ألما من الأدب. لكن بوشكين بموته في قمة عطائه ونضجه؛ كان قد سدد طلقته النافذة في عقل الشعب الروسي وروحه، أشعل شمعة الوعي في ظلمات القيصرية والدكتاتورية. 

كان يغني الحب، هو المؤتمر بأمر الحب،
وكانت أغنيته صافية
كأفكار عذراء ساذجة
كحلم طفل صغير ، كالقمر ..
قلبي نار ملتهبة
لكن عقلي يحكمه الحزم والروية.
روحي بكاملها صرخة،
وأعمالي تفسيرٌ لتلك الصرخة.

كان بوشكين يعرف تماما أن الشاعر الحقيقي ليس من يجيد نظم الأوزان والقوافي، وإنما من يتخذ من الحياة الشعبية غذاء لروحه، ومن قضايا الوطن مادة لفنه، وكان يعي المصير المأساوي للشعراء المخلصين لشعوبهم: إما النفي وإما الموت!


كتب الشاعر ميخائيل ليرمنتوف يرثي صديقه بوشكين قصيدة طويلة بعنوان "موت شاعر"، يقول فيها: 
مات الشاعر !
سقط شهيدا
أسيرا للشرف 
الرصاص في صدره يصرخ للانتقام
والرأس الشامخ انحنى في النهاية
مات !

ويختم ليرمنتوف قصيدته بتذكير الطغاة بما ينتظرهم في محكمة الرب العادل: 
هنالك حكم الرب 
حكم رهيب ينتظر 
لا يميل مع الذهب 
وأمام العرش الإلهي 
لن تنقذوا جلودكم بقذف الأوحال 
ولن تستطيع كل دمائكم القذرة
أن تعوض أبدا
دم الشاعر النقي 

لكن غاب عن ليرمنتوف أن الطاغية لا ينظر أبعد من أنفه .. لا يفكر فيما بعد غد .. فكيف له أن يفكر فيما بعد الموت! لذا وبنفس الطريقة لقي ليرمنتوف حتفه !!

يقول بوشكين:

أنا الآن متحررٌ للعزاء،
وشاكرٌ للرب العظيم؛
فعلى الأقل، منحتُ الحرية في هذا العالم 

***