الأربعاء، 7 مارس 2018

طلقة بوشكين


كل المنسوب إلى الصدف مدبر ..
كي يبدو من فعل الصدفة ..
- نجيب سرور

يحدث أن ينظر المرء إلى واقعه بعين خياله فيعكس الواقع في مرآة الفن أو الأدب، ليقدم تحفة فنية أو عملا أدبيا خالدا .. يحدث هذا، لكن أن يذهب المرء بخياله إلى مستقبله الذي سيكون واقعه في قادم الأيام؛ فهذا ما تقوله لنا أحداث حياة أمير الشعراء الروس ألكسندر سيرغيفيتش بوشكين.


ولد ألكسندر بوشكين في 26 أيار 1799، درس في المدرسة الليسيه وتخرج منها عام 1817، نظم خلال دراسته قصائد تعبر عن الحب والصداقة والإخلاص وكتب قصائد وطنية. ولا شك أنه تأثر بالحرب الروسية — الفرنسية التي امتدت ما بين عامي 1805 - 1814، والتي استطاع خلالها نابليون بونابرت احتلال موسكو عام 1812.


في عام 1818 نظم بوشكين قصيدة "الحرية"، الحرية التي كان الشعب الروسي يناضل من أجلها، يقول فيها:

ألا ابتعدي عن طريقي
يا ربة الأوتار الخافتة
أين أنتِ، أين أنت أيتها العاصفة الرجولية
يا مغنية الحرية الفخورة ؟
اقتربي ومزقي اكليلي
وحطمي قيثارتي الناعمة
أريد أن أتغنى الحرية الإنسانية
وأفضح الرذيلة في عروشها

ومن ثم نظم قصيدة "إلى تشادييف"، والتي يرى فيها أن الحرية تؤخذ ولا تعطى، تؤخذ بدماء أبناء الشعب المخلصين في سبيل مقاومة الطغاة الظالمين. وبعد ذلك نظم بوشكين قصيدة "القرية" 1819، والتي يقول فيها:

أتراني أرى شعبنا، يا أصدقائي، وقد تحرر
من جور العبودية بأمر من القيصر ؟
أولم يحنْ لفجر الحرية الوطيئة الرائع
أن يشرق على وطننا أخيرا ؟


بدأت كلمات بوشكين تجد صدى في قلوب الناس، وتلقى استجابة واستحسانا بين الشباب، الذين أصبحوا يرددون أشعاره، ولما أن عرف القيصر ألكسندر الأول بهذه القصائد، حتى قرر نفي بوشكين، ذلك أن أكثر ما يخافه الطغاة هو ذا: وعي المجتمع بالحرية والعدالة الاجتماعية وإدراك أفراده للظلم الواقع عليهم. لقد نفي بوشكين "ابن الحظ البائس المنبوذ" إلى الجنوب 1820، حتى يظل صوت الشعب بعيدا عن مسامعهم. 

نُفي بوشكين — ودائما ما يدفع الإنسان الثمن ! — وما إن وصل إلى منفاه حتى مرض، فنقل إلى القرم، وهناك حيث لا يجرؤ على المغامرة سوى الرياح وبوشكين، نظم قصيدة "الخنجر" والتي نادى فيها بضرورة الثورة الدموية على الأوضاع البائسة، ولعله كان متأثرا بأفكار الديسمبريين.


نظم بوشكين قصيدة "نافورة باختشي ساراي" متأثرا بجمال طبيعة القرم. انتقل إلى أوديسا 1823، وهناك أكمل الفصول الثلاثة الأولى من قصيدته الشهيرة "يفغيني أونيغين"، قبل أن يأمر ألكسندر الأول بنفيه إلى ميخايلوفسكي، حيث "كل شيء هادئ" نعمَ فيها بحياة هادئة، استزاد من القراءة و أكثر على الحكايات الشعبية. "مباركٌ، مَن في وحدته .. حفظ أجمل مخلوقاتها". وفي منفاه الجديد، نظم قصيدة "الغجر"، وتراجيديا "بوريس غودونوف" الشعبية، التي قرر فيها أن الشعب هو الذي يصنع التاريخ وليس الأفراد (وما الابتعاث منا ببعيد!). كما نظم تسع قصائد عنونها بـ "قبسات من القرآن".


في ديسمبر 1825، قامت حركة الديسمبريين، أي بعد وفاة ألكسندر الأول وقبل تتويج نيقولا الأول، إلا أنها باءت بالفشل. تردد القيصر الجديد في أمر بوشكين، فأرسل من يتجسس أحواله! كتب رجل البوليس في تقريره أن الشاعر يعيش حياة هادئة ويقترب كثيرا من الفقراء، ولا يوجد دليل على تمرده. بعد هزيمة أصدقائه الديسمبريين، توصل بوشكين إلى قناعة مفادها أن الاصلاح يجب أن يكون بطريقة سلمية.


في عام 1831 ترى روايته الشعرية "يفغيني أونيغين" النور، وقد استغرقت ثماني سنوات. بعد ذلك كتب بوشكين تراجيديا موتسارت وساليري وتراجيديا الضيف الحجري. يقول بوشكين في "يفغيني أونيغين":

من عاش وفكر لا بد
أن يحتقر الناس في قرارة نفسه
ومن كان ذا إحساس لا بد
أن يقلقه شبح الأيام التي لن تعود،
لا بد أن يعزف عن المباهج،
لا بد أن تلسعه أفعى الذكريات
وأن يتآكله الندم ..

نشر بوشكين مجموعة قصص عام 1831، أي في العام الذي تزوج فيه بالسيدة الجميلة ناتاليا جونشاروفا. في قصة "الطلقة"، كتب بوشكين عن مبارزة بين اثنين من أفراد الجيش الروسي، أحدهما سيلفيو والآخر هو الكونت. وقد كانت المبارزة في القرن التاسع عشر عن طريق إطلاق النار! في اللقاء الأول بينهما، أخطأ الكونت التصويب، فبدلا من سيلفيو أصاب قبعته. جاء دور سيلفيو، وعندما همّ بإطلاق النار، كان خصمه (الكونت) غير مبالٍ بحياته، حيث كان يأكل الكرز لافظا النوى باتجاه سيلفيو، أنزل المسدس، وقال للشهود: لا أنوي إطلاق النار اليوم! استقال سيلفيو من الخدمة، وهجر البلدة. تمضي خمس سنوات قبل أن يأتي سيلفيو خبر زواج الكونت من حبيبته، إنها فرصة سيلفيو للانتقام، لرد الشرف. يذهب سيلفيو لمقابلة غريمه، ويفاجأ الكونت بسيلفيو أمامه! أعطى سيلفيو الكونت فرصة ثانية لإطلاق النار أولا، وللمرة الثانية يخطئ الكونت الهدف!  

إن كان الكونت قد أخطأ سيلفيو وأصاب قبعته، فإنه من غير المتوقع أبدا أن يخطئ سيلفيو إصابة الكونت، فقد كان يتدرب يوميا على إطلاق الرصاص طيلة الخمس سنوات، لكن سيلفيو لم يكن هدفه أن يقتل الكونت! فعندما سأله الكونت: هل ستطلق النار أم لا؟ وكانت زوجته تتوسل سيلفيو أن لا يصوب زوجها .. أجاب سيلفيو: لا ، لن أطلق. لقد رأيت اضطرابك ووجلك، وهذا يكفي. ستتذكرني، واتركك لضميرك !!


لا شك أن سيلفيو شعر بعدها بالارتياح، ولكن ما مغزى ذكر هذه القصة بالذات؟! هل كانت الأقدار حبلى بمصيرٍ لبوشكين يماثل مصير إحدى شخصيات قصته ؟!


اعتبرت الحكومة القيصرية أن أشعار بوشكين لعبت دورا تحريضيا في الحركة الديسمبرية، لذا استدعى القيصر نيقولا الأول بوشكين، وسأله عما كان سيفعله فيما لو كان موجودا في سانت بطرسبورغ في 14 ديسمبر، فأجاب بوشكين: "كنت انضممت إلى صفوف المتمردين!" أعلن القيصر أنه شخصيا سيشرف على مراجعة أعماله قبل نشرها! ظلت علاقة بوشكين والقيصر في حالة توتر (توتر بين فعل الاستبداد وصوت الحرية)، وباتت كتاباته خاضعة لرقابة خانقة، إضافة إلى هجوم النقاد والصحافة الخاضعة للحكومة عليه، مع ما كان يقابله من عداء من جانب رجال البلاط. عشية رأس سنة 1834، منح القيصر بوشكين لقب نبيل مما أثار غضبه واستياءه، فهذا لقب يمنح للصغار، ثم أن هذا اللقب سيجعله يتردد على الحفلات الرسمية ليس بمفرده بل مع زوجته الجميلة، التي تحب الرقص والحفلات !! .. وهذا مما زاد حمل النفقات عليه، كذلك مُنع من قراءة أعماله الجديدة على أي شخص قبل مرورها على الرقابة، ومن أعماله التي كتبها بعد زواجه روايتي "دوبروفسكي" و "ابنة الآمر"؛ ومسرحيات تراجيدية قصيرة مثل مسرحية "الفارس البخيل"، كما نظم قصيدة "الفارس البرونزي"، القصيدة التي لم يسمح القيصر بطباعتها ! .. هكذا يتم اغتيال الأحرار معنويا. لقد ضيقت القيصرية الخناق عليه، ومما زاد الأمر سوءا؛ انتشار شائعات بأن زوجته غير مخلصة له، وأنها على علاقة بالضابط الفرنسي دانتس. وخلال تلك الفترة، كان بوشكين وأصدقاؤه يتلقون رسائل غير موقعة مليئة بالقذف والشتائم لتشويه سمعته .. تثار الأقاويل ضده، ويتآمر الخصوم عليه، فتمتلئ روحه مرارة. لقد كانت خطة مدبرة من قبل القيصر والقيصرية لاغتيال صوت الشعب، خطة تبدو كما لو كانت من وحي الصدفة [كل المنسوب إلى الصدف مدبر .. كي يبدو من فعل الصدفة]. لم يحتمل بوشكين ذلك، فالقلب يعتصر غضبا "والعار كالمطرقة يدق الأذن"، فدعا غريمه دانتس للمبارزة بالمسدسات دفاعا عن شرفه .. ها قد نجحت الخطة!! وتمت المبارزة في 27 كانون الثاني 1837، وأصيب بوشكين في هذه المبارزة بجرح ظل ينزف ليومين .. فهل كان بالإمكان علاج جرحه؟ وهل كان بالإمكان إنقاذ حياته؟ لكن كيف يتم إنقاذه إذا كان موته هو المطلوب؟! بعد يومين، في 29 كانون الثاني 1837، غابت شمس بوشكين، لكن كلماته ما زالت تضيء العقول بنورها.


هكذا كانت الطلقة سببا في موت بوشكين. هكذا تخبرنا الوقائع أن الواقع أكثر ألما من الأدب. لكن بوشكين بموته في قمة عطائه ونضجه؛ كان قد سدد طلقته النافذة في عقل الشعب الروسي وروحه، أشعل شمعة الوعي في ظلمات القيصرية والدكتاتورية. 

كان يغني الحب، هو المؤتمر بأمر الحب،
وكانت أغنيته صافية
كأفكار عذراء ساذجة
كحلم طفل صغير ، كالقمر ..
قلبي نار ملتهبة
لكن عقلي يحكمه الحزم والروية.
روحي بكاملها صرخة،
وأعمالي تفسيرٌ لتلك الصرخة.

كان بوشكين يعرف تماما أن الشاعر الحقيقي ليس من يجيد نظم الأوزان والقوافي، وإنما من يتخذ من الحياة الشعبية غذاء لروحه، ومن قضايا الوطن مادة لفنه، وكان يعي المصير المأساوي للشعراء المخلصين لشعوبهم: إما النفي وإما الموت!


كتب الشاعر ميخائيل ليرمنتوف يرثي صديقه بوشكين قصيدة طويلة بعنوان "موت شاعر"، يقول فيها: 
مات الشاعر !
سقط شهيدا
أسيرا للشرف 
الرصاص في صدره يصرخ للانتقام
والرأس الشامخ انحنى في النهاية
مات !

ويختم ليرمنتوف قصيدته بتذكير الطغاة بما ينتظرهم في محكمة الرب العادل: 
هنالك حكم الرب 
حكم رهيب ينتظر 
لا يميل مع الذهب 
وأمام العرش الإلهي 
لن تنقذوا جلودكم بقذف الأوحال 
ولن تستطيع كل دمائكم القذرة
أن تعوض أبدا
دم الشاعر النقي 

لكن غاب عن ليرمنتوف أن الطاغية لا ينظر أبعد من أنفه .. لا يفكر فيما بعد غد .. فكيف له أن يفكر فيما بعد الموت! لذا وبنفس الطريقة لقي ليرمنتوف حتفه !!

يقول بوشكين:

أنا الآن متحررٌ للعزاء،
وشاكرٌ للرب العظيم؛
فعلى الأقل، منحتُ الحرية في هذا العالم 

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق