إن
ما نشهده في الواقع العربي من صراعات وحروب وتزايد في أعداد الضحايا (واليوم، كل
الذين يلقون حتفهم في الحروب ضحايا)، وما نتج وينتج عن ذلك من مآسي وآلام حتى أن
الأمل يكاد يختنق في قبضة الشر. كل هذا جعل الكثير من التساؤلات تطفو على السطح
محاولة النجاة من هذا الاختناق. وهذه التساؤلات إنما تتمركز حول مشكلة الشر، أي عن
سبب وجود الشر في هذا العالم، وكيف يمكن التوفيق بين وجود الشر كشيء واقعي وملموس،
وبين وجود إله خالق ورحيم وعلى كل شيء قدير.
ومن
المعروف أن الشر موجود منذ الإنسان الأول، بل هو قبل ذلك في عالم الحيوان
والطبيعة. ولا شك أن الفكر الإنساني قد تعرض لمشكلة الشر محاولا التوفيق بين وجود
الشر في العالم كشيء واقعي وملموس، وبين العناية الإلهية بالخلق. فكيف استطاع
الفكر الإنساني معالجة هذه المسألة؟
تشرق
علينا أولا إحدى أقدم الفلسفات الشرقية، ألا وهي الطاوية. ففي الطاوية؛ يُنظر إلى
الحياة والإنسان والوجود بأكمله، على أنه نتاج قوتين ساريتين في كل مظاهر الوجود،
هما الـ"يانغ" و الـ"ين"، وهما على تعارضهما إلا أنهما
متعاونتان، فلا قيام لأحدهما في معزل عن الأخرى، فكل ضد يتخذ معناه من ضده. حيث لا
نور بلا ظلام، ولا خير بلا شر، ولا حياة بلا موت، وحيث الوجود وكل مظاهره في حالة
تناوب تلقائي. وهكذا ترى الطاوية أن وجود الشر مقرون بوجود الخير. وأنه لولا وجود
أحدهما لما وجد الآخر. وهذه النظرة سابقة لفلسفة هرقليطس*، أي اجتماع الأضداد،
ومفادها أن الخير ضد الشر، ولا يوجد الضد من غير ضده، فوجود الخير يستدعي وجود
الشر، ومن الخطأ أن نريد أحدهما دون الاخر، لأن انتفاء أحدهما يعني انتفاء الآخر.
واسمع لقول الحكيم الصيني لاو-تسو، وهو أحد حكماء الطاوية، إذ يقول:
"الحكيم هو الذي يدرك قطبية وجوده ووجود العالم، وصيرورة الأحداث فيه، ويرى
في كل مظهر لليانغ بذرة ين تنمو في أعماقه، وفي كل مظهر للين بذرة
يانغ".
وفي
الفلسفة اليونانية، نجد أن الرواقية قد حاولت إيجاد حل للتوتر القائم بين العناية
الإلهية وبين مشكلة الشر، فذهبت إلى أنه لا شر هناك إذا نظرنا إلى الأمر نظرة كلية
كونية، فلكل شيء في الكون مكانه ووظيفته وغايته وطبيعته، وما يسميه الناس شرا إنما
هو شر من حيث الجزء لا من حيث الكل، بينما هو يتجه في الحقيقة إلى كمال المجموع.
ووجود الشر في الجزيئات شرط لخير الكل.
أما
في الفكر الديني، فإن أكثر المفكرين المسيحيين اهتماما بالشر في عصر الآباء هو
أوغسطين، إذ يميز بين الشر الأخلاقي - أو الخطيئة - وهو ليس من صنع الله، بل من
صنع الإرادة الإنسانية التي تستطيع الاختيار بين الخير والشر، وبين الشر الفيزيائي
الذي يعكس العدالة الإلهية، من حيث أنه عقاب للإنسان عن خطيئته الأولى. وفي هذا قال لاكتانس (النظام الإلهي): "كل شر إنما يصدر عن إرادة الإنسان، فهو الذي يختار
الشر كما يختار الخير، والشر إنما ينتج عن إساءة استعمال الإنسان لحريته في
الاختيار".
وإذا تأملنا ما ذكره الفكر الإسلامي عندما تعرض لمعضلة الشر، نجد أنه يقرر بأن الله هو وهو فقط الخير المحض، وأنه قد خلق عالم الوجود، ولأن الخلق يستلزم انفصال عالم الوجود عن منبع الخير المحض؛ صار ذلك الانفصال سببا في ظهور الشر. وبعبارة أخرى؛ إن الله هو الخير المطلق، ولا يمكن لشيء آخر أن يكون خيرا مطلقا؛ لأنه لا يمكن لشيء آخر أن يكون الله.
إذن، عالم الوجود - بانفصاله عن منبع الخير المحض والكمال المطلق اللامتناهي - قد وُجد من الكمال ولكنه يحتوي على نقص. إن هذا الكمال هو الخير وهو أمر وجودي، بينما الشر أمر عدمي يعبر عنه النقصان (أي عدم الكمال). فالشيء الواحد في كماله الخير وفي نقصانه الشر، فهو (أي الشيء) يتردد بين قطبين متناقضين يضمهما في داخل ذاته، وهنا حركة جدلية بين ثنائية الأضداد في الشيء نفسه، فالضد هو الشريك أيضا، ولهذا قال عبد الرحمن بدوي: "إن الوجود نسيج الأضداد". وقد قيل إنه في عالم الوجود؛ لا يوجد خير محض ولا شر محض، أي أن في أي خير يوجد شر، وفي أي شر يوجد خير.
وإذا تأملنا ما ذكره الفكر الإسلامي عندما تعرض لمعضلة الشر، نجد أنه يقرر بأن الله هو وهو فقط الخير المحض، وأنه قد خلق عالم الوجود، ولأن الخلق يستلزم انفصال عالم الوجود عن منبع الخير المحض؛ صار ذلك الانفصال سببا في ظهور الشر. وبعبارة أخرى؛ إن الله هو الخير المطلق، ولا يمكن لشيء آخر أن يكون خيرا مطلقا؛ لأنه لا يمكن لشيء آخر أن يكون الله.
إذن، عالم الوجود - بانفصاله عن منبع الخير المحض والكمال المطلق اللامتناهي - قد وُجد من الكمال ولكنه يحتوي على نقص. إن هذا الكمال هو الخير وهو أمر وجودي، بينما الشر أمر عدمي يعبر عنه النقصان (أي عدم الكمال). فالشيء الواحد في كماله الخير وفي نقصانه الشر، فهو (أي الشيء) يتردد بين قطبين متناقضين يضمهما في داخل ذاته، وهنا حركة جدلية بين ثنائية الأضداد في الشيء نفسه، فالضد هو الشريك أيضا، ولهذا قال عبد الرحمن بدوي: "إن الوجود نسيج الأضداد". وقد قيل إنه في عالم الوجود؛ لا يوجد خير محض ولا شر محض، أي أن في أي خير يوجد شر، وفي أي شر يوجد خير.
وهنا قد يسأل سائل: أين العدالة الإلهية في عالمنا؟
لقد
قلنا: إن عالم الوجود، والذي انفصل عن الخير المحض، قد وُجد على نقص هو الشر.
ولذلك فإن العدالة الإلهية المطلقة لن تكون في هذا العالم الذي يعوزه الكمال
المطلق. وهنا نستطيع أن نقول أن عالم الوجود ليس ساحة للعدالة الإلهية، وهذا هو
سبب الإيمان بأن العدالة الإلهية سوف تتحقق في الحياة الآخرة عندما تتغير قوانين
عالم الوجود، فلا جدلية في الشيء نفسه (حياة وموت، خير وشر، ... إلخ) ولا أضداد شركاء.
ثم لو أن عالم الوجود كان خيرا مطلقا، فليس هناك أي معنى ليوم الحساب الذي ستتحقق
فيه العدالة الإلهية. ولنسأل: أليس وجود الشر دليل على أننا موعودون بيوم
الحساب؟!
إن
الإنسان وهو جزء من الوجود، تنطبق عليه قوانين الوجود المادي، أي - كما ذكرنا -
صراع الأضداد في الشيء نفسه (الموت والحياة، الخير والشر، .. إلخ). وهذا يدعونا
إلى الإقرار بطبيعة الكائن البشري (كما يؤكدها علم النفس) والتي تتمثل في وجود
الخير والشر في طبيعته التكوينية، وأن ذلك بدون اختيار منه، ولذلك فقد أُعطي
الإنسان الحرية في اختيار أفعاله، ليفعل ما يختاره هو نفسه بلا إجبار ولا إكراه.
وهذه الحرية هي أساس الوجود الإنساني، فالإنسان حرّ في خياراته بين الطاعة
والمعصية، والخير والشر. وهذه الحرية هي التي جعلت الإنسان مسؤولا عن أفعاله، تلك الأفعال التي
سيحاسب عليها فيما بعد، أي عندما تتجلى العدالة الإلهية في يوم الحساب.
إن
ثنائيات الخير والشر، الطاعة والمعصية، الصواب والخطأ، الحق والوهم أصل في طبيعة
الإنسان الوجودية، "كل ابن آدم خطاء"، وطبيعة الإنسان هذه هي ما
فتحت باب التوبة أمامه، ولعل هذا بعض ما يخفف عليه ثقل التقصير والمعصية. لأن
معرفة أننا نتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا القدر الكبير من الشر يثقل كاهلنا،
لذلك "نفضل أن نجد الشر مقيما في أفراد المجرمين أو في جماعاتهم، بينما نقوم
بغسل أيدينا تنصلا من الميل العام إلى الشر وتجاهلا له". وهنا تظهر ميزة
عظيمة تقوم بها الأديان السماوية إذ تعمد إلى التسليم بمبدأ ميتافيزيقي للشر، حيث
أنها تخفف عن ضمير الإنسان مسؤولية بالغة الثقل إذ تلقيها على عاتق الشيطان.
إن
حرية الإنسان في أفعاله (الطاعة والمعصية، الخير والشر، ... إلخ) تمثل أساس موضوع الأخلاق.
والإنسان من الوجهة الأخلاقية - كما يقول جيمس هنري برستد - لا يزال طفلا يلعب في
داخل حجرة مملوءة بلعب خطرة جدا لم يتعلم بعد كيفية استعمالها، وبذلك يُحدث
باستمرار أضرارا جسيمة، لا لنفسه وكفى، بل لكل المبنى الذي يعيش فيه.
وخلاصة
القول:
1.
إن وجود الشر لا يتعارض مع وجود إله خالق ورحيم وعلى كل شيء قدير، إنما الشر كان
نتيجة لخلق عالم الوجود من قبل إله لامتناهٍ وخير محض.
2.
يكمن كلٌّ من الخير والشر في تكوين الإنسان، وأن ذلك بدون اختيار منه، ولذلك أُعطي
الحرية لاختيار أفعاله.
3.
إن حرية الإنسان هي أساس الأخلاق.
4.
إن طبيعة الإنسان والتي يعتريها النقص والخطأ هي ما فتحت أبواب التوبة
أمامه.
5.
إن معرفة أن الإنسان في وسعه أن يعمل الشر كما يعمل الخير يجب أن تكون الحافز
للعمل على تربية الجنس البشري تربية أخلاقية تسعى للحد من الشر.
وأخيرا،
يقول محمد شحرور: لقد ربط التنزيل الحكيم بين وجود الخير والشر في هذا الوجود وبين
ظاهرة الموت في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة،
وإلينا ترجعون). ولهذا فإن مثَل الطامع بإلغاء الشر كمثل الذي يطمع بإلغاء قانون
الموت، وهذا محال؛ لأن ظاهرة الموت قانون من قوانين الوجود ولا يمكن القضاء
عليها.
****
* هرقليطس .. الفيلسوف صاحب الفكرة الجديدة
http://khaled-mohajer.blogspot.com/2016/11/blog-post_20.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق