الأربعاء، 13 سبتمبر 2017

ما سرُّ عالميته؟

إن كل ما هو إنساني أو يختص بالإنتاج الإنساني يختلف بحسب اختلاف الإنسان الذي يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، وكذلك يختلف باختلاف اللغة والبنية الاجتماعية، والبيئة (من خلال موقعها وجغرافيتها)، وباختلاف تاريخه وموروثه. وكل تلك العوامل تعمل على تكوين ثقافته وآدابه وفنونه وعاداته وتقاليده. وهذه العوامل تؤثر وتساهم في تكوين شخصية الإنسان ليكون فردا متميزا عن غيره في تصوراته ومواقفه وخبراته وطريقة تفكيره وأنماط سلوكه. فما يميّز المجتمع الإنساني هو أن أفراده يختلفون فيما بينهم، وليس يُعرف مجتمع يتماثل أفراده إلا في المجتمعات الحيوانية، كالنمل مثلا.

والحديث هنا عن ما يبدعه الإنسان، وما يميز نتاجه من اختلاف تنوع وتعدد يعكس اختلاف الإنسان كفرد مستقل بذاته، وكعنصر فاعل في المجتمع الذي ينتمي إليه. فالدين* مثلا، يختلف من أمة لأخرى سواء كان هذا الاختلاف في المعتقدات كالإيمان باليوم الآخر، أو في جانب القيم الأخلاقية والذي يشمل المعاملات والمحرمات، أو في الجانب التشريعي أي الحدود، أو الجانب الشعائري الطقوسي كالصلاة مثلا. ولا أوضح من اختلاف الناس في دينهم الذي يتبعون، فتجد المسيحية في الغرب، والهندوسية والبوذية في الشرق وبينهما أتباع الرسالة المحمدية، وهنا وهناك توجد طوائف وأديان أخرى. 

والفن بمختلف أنواعه (الفن التشكيلي كالتصوير، والنحت، والعمارة، أو الصوتي كالموسيقى، أو الحركي كالرقص، .. الخ)، كل هذه الفنون هي نتاج الإنسان وهي ما يعبر عنه الإنسان بحسب خلفيته الثقافية الموروثة وواقعه المعيش. فتجد على سبيل المثال الفن الصيني، والفن العربي أو ما يسمى أرابيسك، والفن الفارسي، والموسيقى الشرقية والغربية (وإن لم يتفق على هذا التقسيم)، والرقص الشرقي والغربي، وهكذا. فالفن لا يعكس واقع التجربة الإنسانية فقط، بل يكون أداة لنقد الواقع المعيش، ووسيلة للتعبير عن رفضه أو قبوله.

وكذلك في الأدب سواء أكان شعرا أم نثرا كالرواية والقصة القصيرة والمسرح والتراجم والنقد، فهو كذلك يختلف تبعا لاختلاف الإنسان، والذي يستخدم أسلوبه الأدبي ليدلي برأيه الشخصي، ويجب أن يعكس هموم مجتمعه، معبرا عن ذلك بلسان لغته، ليمارس الأديب دورا فاعلا في الحياة الاجتماعية. وكذا تختلف الآداب العامة مثل آداب تقديم الطعام وطريقة اللباس، ونظام المسكن وحفلات الزواج والولادة ومراسم دفن الميت وغيرها من العادات والتقاليد.

أما العلم، والمقصود هنا العلوم الطبيعية، كالفيزياء مثلا، فلا يختلف باختلاف الإنسان**، وهذا ما قد يشير إلى أن ما تكشف عنه العلوم الطبيعية ليست إنسانية، أي أن مصدره ليس إنسانيا، بل هو قانون أو قوانين الطبيعة الذي لا تعبأ بالإنسان! ولا شك أن هذا يحرك السؤال القديم: مَن وضع قوانين الطبيعة؟

إن الإجابة على هذا السؤال عند المسلمين سهلة يسيرة، إذ يقولون: "الله خالق كل شيء"، ويقصدون أن الله هو الذي أوجد كل شيء، بمعنى التكوين (كن فيكون)، أما الخلق فيعني التصميم. إذن؛ وحدة قوانين الطبيعة تعني أنها ليست من لدن الإنسان، بل أوجدتها قوة خارجة عن الإنسان، لأن كل ما هو من ابتكار الإنسان يقتضي الاختلاف. ومما قد يدل على أنها خارجة عن الإنسان هي طبيعة العلوم الطبيعية، فما هي إلا كشفٌ عما هو موجود! وهذا ما يفعله العلماء، إنهم يكشفون القناع عن أسرار الطبيعة والوجود الإنساني. والوجود الإنساني يعني التحرر من قيود الضرورة المفروضة على الوجود ليظفر بحريته، وهذه الحرية شرط للإبداع الخلاق في الأدب والعلوم والفنون، وكذلك الدين. فإذا ما وجدت الحرية متنفسها في الخيال الإنساني، اللامحدود بطبعه، فإن العقل يبدع ويُغْني الحياة، فالحرية تسمح بالخروج عن المألوف، حيث يجد الإبداع طريقه. وهكذا، تكوّن الحرية فضاء المعرفة التي تحمي الإنسان من التقليد في الفن، وحشو الكلام في الأدب، والكهنوتية في الدين، وادعاء الحقيقة المطلقة في العلم. إن سبيل الحرية هي سبيل الإبداع الإنساني، كما أن حرية الإنسان لا يمكن أن تكون أوسع من معرفته!

لذلك يمكن القول إنه لا يمكن أن يكون هناك دين عالمي أو فن عالمي أو آداب عالمية، وحده العلم استطاع أن يكون عالميا. ولعل السر في عالميته يكمن في طبيعته التي تتوافق مع طبيعة الحياة، كيف؟ إن الحياة في جدة مستمرة، وكذا العلم ثائر على ماضيه، يصحح مساره ويتجاوز نفسه في تجديد مستمر.

* لفتة:
عندما ذكر التنزيل الحكيم بأن الدين عند الله هو الإسلام، وأن الإسلام يعني الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح .. لعل هذا يعني أن الدين بهذا المعنى الواسع، وبهذه الوحدة التي قررها التنزيل الحكيم، أقول لعله يعني أن مصدر الدين من خارج الإنسان، وليس للإنسان أن يتحكم أو يغير هذا الدين، كما أن هذا لا شأن له باختلاف الناس في مناسكهم وشعائرهم. فاختلاف الملل لا يعني اختلافا في الدين.

ولكن هذا أيضا لا يجعل الدين موضع اتفاق من العالم أجمع، لذا يبقى العلم وحده هو من استطاع أن يكون عالميا. أما ما يسمى بالثقافة العالمية، فإن كانت تعني ثقافة تحتوي على كل الثقافات مع الاحتفاظ بخصوصية كل ثقافة كما هي، فلا بأس بذلك، أما إن كانت تعني اندماج الثقافات في ثقافة واحدة، فإن هذا إيذان بقتل التنوع والاختلاف الإنساني، وذلك من خلال اختزال الثقافات الإنسانية المتعددة والمتنوعة والمختلفة في ثقافة مركزية واحدة. فالتنوع والاختلاف في مجالات الفن والأدب يعكس خصوصية ومحدودية التجربة الإنسانية، ودمجها في ثقافة واحدة سيؤدي إلى الافتقار بدلا من الاغتناء.

إذن؛ لنبارك التنوع والاختلاف والوفرة والتي ستقود إلى التكامل والتواصل وإلى إثراء الحياة الإنسانية ... وما أتعس المتماثلون .. كقطيع الأغنام!
------
** والقصد هنا أن المعرفة العلمية حين يُكشف عنها؛ لا تتغير بتغير الإنسان الذي كشف عنها. ومن يتتبع تاريخ العلم يجد أن المعرفة العلمية معرفة تراكمية، بمعنى أن النظرية العلمية الحديثة تحتوي على القديمة وتتجاوزها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق