الجمعة، 29 سبتمبر 2017

مشكلة الشر

إن ما نشهده في الواقع العربي من صراعات وحروب وتزايد في أعداد الضحايا (واليوم، كل الذين يلقون حتفهم في الحروب ضحايا)، وما نتج وينتج عن ذلك من مآسي وآلام حتى أن الأمل يكاد يختنق في قبضة الشر. كل هذا جعل الكثير من التساؤلات تطفو على السطح محاولة النجاة من هذا الاختناق. وهذه التساؤلات إنما تتمركز حول مشكلة الشر، أي عن سبب وجود الشر في هذا العالم، وكيف يمكن التوفيق بين وجود الشر كشيء واقعي وملموس، وبين وجود إله خالق ورحيم وعلى كل شيء قدير. 

ومن المعروف أن الشر موجود منذ الإنسان الأول، بل هو قبل ذلك في عالم الحيوان والطبيعة. ولا شك أن الفكر الإنساني قد تعرض لمشكلة الشر محاولا التوفيق بين وجود الشر في العالم كشيء واقعي وملموس، وبين العناية الإلهية بالخلق. فكيف استطاع الفكر الإنساني معالجة هذه المسألة؟

تشرق علينا أولا إحدى أقدم الفلسفات الشرقية، ألا وهي الطاوية. ففي الطاوية؛ يُنظر إلى الحياة والإنسان والوجود بأكمله، على أنه نتاج قوتين ساريتين في كل مظاهر الوجود، هما الـ"يانغ" و الـ"ين"، وهما على تعارضهما إلا أنهما متعاونتان، فلا قيام لأحدهما في معزل عن الأخرى، فكل ضد يتخذ معناه من ضده. حيث لا نور بلا ظلام، ولا خير بلا شر، ولا حياة بلا موت، وحيث الوجود وكل مظاهره في حالة تناوب تلقائي. وهكذا ترى الطاوية أن وجود الشر مقرون بوجود الخير. وأنه لولا وجود أحدهما لما وجد الآخر. وهذه النظرة سابقة لفلسفة هرقليطس*، أي اجتماع الأضداد، ومفادها أن الخير ضد الشر، ولا يوجد الضد من غير ضده، فوجود الخير يستدعي وجود الشر، ومن الخطأ أن نريد أحدهما دون الاخر، لأن انتفاء أحدهما يعني انتفاء الآخر. واسمع لقول الحكيم الصيني لاو-تسو، وهو أحد حكماء الطاوية، إذ يقول: "الحكيم هو الذي يدرك قطبية وجوده ووجود العالم، وصيرورة الأحداث فيه، ويرى في كل مظهر لليانغ بذرة ين تنمو في أعماقه، وفي كل مظهر للين بذرة يانغ". 

وفي الفلسفة اليونانية، نجد أن الرواقية قد حاولت إيجاد حل للتوتر القائم بين العناية الإلهية وبين مشكلة الشر، فذهبت إلى أنه لا شر هناك إذا نظرنا إلى الأمر نظرة كلية كونية، فلكل شيء في الكون مكانه ووظيفته وغايته وطبيعته، وما يسميه الناس شرا إنما هو شر من حيث الجزء لا من حيث الكل، بينما هو يتجه في الحقيقة إلى كمال المجموع. ووجود الشر في الجزيئات شرط لخير الكل. 

أما في الفكر الديني، فإن أكثر المفكرين المسيحيين اهتماما بالشر في عصر الآباء هو أوغسطين، إذ يميز بين الشر الأخلاقي - أو الخطيئة - وهو ليس من صنع الله، بل من صنع الإرادة الإنسانية التي تستطيع الاختيار بين الخير والشر، وبين الشر الفيزيائي الذي يعكس العدالة الإلهية، من حيث أنه عقاب للإنسان عن خطيئته الأولى. وفي هذا قال لاكتانس (النظام الإلهي): "كل شر إنما يصدر عن إرادة الإنسان، فهو الذي يختار الشر كما يختار الخير، والشر إنما ينتج عن إساءة استعمال الإنسان لحريته في الاختيار".

وإذا تأملنا ما ذكره الفكر الإسلامي عندما تعرض لمعضلة الشر، نجد أنه يقرر بأن الله هو وهو فقط الخير المحض، وأنه قد خلق عالم الوجود، ولأن الخلق يستلزم انفصال عالم الوجود عن منبع الخير المحض؛ صار ذلك الانفصال سببا في ظهور الشر. وبعبارة أخرى؛ إن الله هو الخير المطلق، ولا يمكن لشيء آخر أن يكون خيرا مطلقا؛ لأنه لا يمكن لشيء آخر أن يكون الله.

إذن، عالم الوجود - بانفصاله عن منبع الخير المحض والكمال المطلق اللامتناهي - قد وُجد من الكمال ولكنه يحتوي على نقص. إن هذا الكمال هو الخير وهو أمر وجودي، بينما الشر أمر عدمي يعبر عنه النقصان (أي عدم الكمال). فالشيء الواحد في كماله الخير وفي نقصانه الشر، فهو (أي الشيء) يتردد بين قطبين متناقضين يضمهما في داخل ذاته، وهنا حركة جدلية بين ثنائية الأضداد في الشيء نفسه، فالضد هو الشريك أيضا، ولهذا قال عبد الرحمن بدوي: "إن الوجود نسيج الأضداد". وقد قيل إنه في عالم الوجود؛ لا يوجد خير محض ولا شر محض، أي أن في أي خير يوجد شر، وفي أي شر يوجد خير.




وهنا قد يسأل سائل: أين العدالة الإلهية في عالمنا؟ 

لقد قلنا: إن عالم الوجود، والذي انفصل عن الخير المحض، قد وُجد على نقص هو الشر. ولذلك فإن العدالة الإلهية المطلقة لن تكون في هذا العالم الذي يعوزه الكمال المطلق. وهنا نستطيع أن نقول أن عالم الوجود ليس ساحة للعدالة الإلهية، وهذا هو سبب الإيمان بأن العدالة الإلهية سوف تتحقق في الحياة الآخرة عندما تتغير قوانين عالم الوجود، فلا جدلية في الشيء نفسه (حياة وموت، خير وشر، ... إلخ) ولا أضداد شركاء. ثم لو أن عالم الوجود كان خيرا مطلقا، فليس هناك أي معنى ليوم الحساب الذي ستتحقق فيه العدالة الإلهية. ولنسأل: أليس وجود الشر دليل على أننا موعودون بيوم الحساب؟! 

إن الإنسان وهو جزء من الوجود، تنطبق عليه قوانين الوجود المادي، أي - كما ذكرنا - صراع الأضداد في الشيء نفسه (الموت والحياة، الخير والشر، .. إلخ). وهذا يدعونا إلى الإقرار بطبيعة الكائن البشري (كما يؤكدها علم النفس) والتي تتمثل في وجود الخير والشر في طبيعته التكوينية، وأن ذلك بدون اختيار منه، ولذلك فقد أُعطي الإنسان الحرية في اختيار أفعاله، ليفعل ما يختاره هو نفسه بلا إجبار ولا إكراه. وهذه الحرية هي أساس الوجود الإنساني، فالإنسان حرّ في خياراته بين الطاعة والمعصية، والخير والشر. وهذه الحرية هي التي جعلت الإنسان مسؤولا عن أفعاله، تلك الأفعال التي سيحاسب عليها فيما بعد، أي عندما تتجلى العدالة الإلهية في يوم الحساب. 

إن ثنائيات الخير والشر، الطاعة والمعصية، الصواب والخطأ، الحق والوهم أصل في طبيعة الإنسان الوجودية، "كل ابن آدم خطاء"، وطبيعة الإنسان هذه هي ما فتحت باب التوبة أمامه، ولعل هذا بعض ما يخفف عليه ثقل التقصير والمعصية. لأن معرفة أننا نتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا القدر الكبير من الشر يثقل كاهلنا، لذلك "نفضل أن نجد الشر مقيما في أفراد المجرمين أو في جماعاتهم، بينما نقوم بغسل أيدينا تنصلا من الميل العام إلى الشر وتجاهلا له". وهنا تظهر ميزة عظيمة تقوم بها الأديان السماوية إذ تعمد إلى التسليم بمبدأ ميتافيزيقي للشر، حيث أنها تخفف عن ضمير الإنسان مسؤولية بالغة الثقل إذ تلقيها على عاتق الشيطان. 

إن حرية الإنسان في أفعاله (الطاعة والمعصية، الخير والشر، ... إلخ) تمثل أساس موضوع الأخلاق. والإنسان من الوجهة الأخلاقية - كما يقول جيمس هنري برستد - لا يزال طفلا يلعب في داخل حجرة مملوءة بلعب خطرة جدا لم يتعلم بعد كيفية استعمالها، وبذلك يُحدث باستمرار أضرارا جسيمة، لا لنفسه وكفى، بل لكل المبنى الذي يعيش فيه. 

وخلاصة القول:
1. إن وجود الشر لا يتعارض مع وجود إله خالق ورحيم وعلى كل شيء قدير، إنما الشر كان نتيجة لخلق عالم الوجود من قبل إله لامتناهٍ وخير محض. 
2. يكمن كلٌّ من الخير والشر في تكوين الإنسان، وأن ذلك بدون اختيار منه، ولذلك أُعطي الحرية لاختيار أفعاله. 
3. إن حرية الإنسان هي أساس الأخلاق. 
4. إن طبيعة الإنسان والتي يعتريها النقص والخطأ هي ما فتحت أبواب التوبة أمامه. 
5. إن معرفة أن الإنسان في وسعه أن يعمل الشر كما يعمل الخير يجب أن تكون الحافز للعمل على تربية الجنس البشري تربية أخلاقية تسعى للحد من الشر. 

وأخيرا، يقول محمد شحرور: لقد ربط التنزيل الحكيم بين وجود الخير والشر في هذا الوجود وبين ظاهرة الموت في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون). ولهذا فإن مثَل الطامع بإلغاء الشر كمثل الذي يطمع بإلغاء قانون الموت، وهذا محال؛ لأن ظاهرة الموت قانون من قوانين الوجود ولا يمكن القضاء عليها. 



****
* هرقليطس .. الفيلسوف صاحب الفكرة الجديدة
http://khaled-mohajer.blogspot.com/2016/11/blog-post_20.html

الأربعاء، 13 سبتمبر 2017

ما سرُّ عالميته؟

إن كل ما هو إنساني أو يختص بالإنتاج الإنساني يختلف بحسب اختلاف الإنسان الذي يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، وكذلك يختلف باختلاف اللغة والبنية الاجتماعية، والبيئة (من خلال موقعها وجغرافيتها)، وباختلاف تاريخه وموروثه. وكل تلك العوامل تعمل على تكوين ثقافته وآدابه وفنونه وعاداته وتقاليده. وهذه العوامل تؤثر وتساهم في تكوين شخصية الإنسان ليكون فردا متميزا عن غيره في تصوراته ومواقفه وخبراته وطريقة تفكيره وأنماط سلوكه. فما يميّز المجتمع الإنساني هو أن أفراده يختلفون فيما بينهم، وليس يُعرف مجتمع يتماثل أفراده إلا في المجتمعات الحيوانية، كالنمل مثلا.

والحديث هنا عن ما يبدعه الإنسان، وما يميز نتاجه من اختلاف تنوع وتعدد يعكس اختلاف الإنسان كفرد مستقل بذاته، وكعنصر فاعل في المجتمع الذي ينتمي إليه. فالدين* مثلا، يختلف من أمة لأخرى سواء كان هذا الاختلاف في المعتقدات كالإيمان باليوم الآخر، أو في جانب القيم الأخلاقية والذي يشمل المعاملات والمحرمات، أو في الجانب التشريعي أي الحدود، أو الجانب الشعائري الطقوسي كالصلاة مثلا. ولا أوضح من اختلاف الناس في دينهم الذي يتبعون، فتجد المسيحية في الغرب، والهندوسية والبوذية في الشرق وبينهما أتباع الرسالة المحمدية، وهنا وهناك توجد طوائف وأديان أخرى. 

والفن بمختلف أنواعه (الفن التشكيلي كالتصوير، والنحت، والعمارة، أو الصوتي كالموسيقى، أو الحركي كالرقص، .. الخ)، كل هذه الفنون هي نتاج الإنسان وهي ما يعبر عنه الإنسان بحسب خلفيته الثقافية الموروثة وواقعه المعيش. فتجد على سبيل المثال الفن الصيني، والفن العربي أو ما يسمى أرابيسك، والفن الفارسي، والموسيقى الشرقية والغربية (وإن لم يتفق على هذا التقسيم)، والرقص الشرقي والغربي، وهكذا. فالفن لا يعكس واقع التجربة الإنسانية فقط، بل يكون أداة لنقد الواقع المعيش، ووسيلة للتعبير عن رفضه أو قبوله.

وكذلك في الأدب سواء أكان شعرا أم نثرا كالرواية والقصة القصيرة والمسرح والتراجم والنقد، فهو كذلك يختلف تبعا لاختلاف الإنسان، والذي يستخدم أسلوبه الأدبي ليدلي برأيه الشخصي، ويجب أن يعكس هموم مجتمعه، معبرا عن ذلك بلسان لغته، ليمارس الأديب دورا فاعلا في الحياة الاجتماعية. وكذا تختلف الآداب العامة مثل آداب تقديم الطعام وطريقة اللباس، ونظام المسكن وحفلات الزواج والولادة ومراسم دفن الميت وغيرها من العادات والتقاليد.

أما العلم، والمقصود هنا العلوم الطبيعية، كالفيزياء مثلا، فلا يختلف باختلاف الإنسان**، وهذا ما قد يشير إلى أن ما تكشف عنه العلوم الطبيعية ليست إنسانية، أي أن مصدره ليس إنسانيا، بل هو قانون أو قوانين الطبيعة الذي لا تعبأ بالإنسان! ولا شك أن هذا يحرك السؤال القديم: مَن وضع قوانين الطبيعة؟

إن الإجابة على هذا السؤال عند المسلمين سهلة يسيرة، إذ يقولون: "الله خالق كل شيء"، ويقصدون أن الله هو الذي أوجد كل شيء، بمعنى التكوين (كن فيكون)، أما الخلق فيعني التصميم. إذن؛ وحدة قوانين الطبيعة تعني أنها ليست من لدن الإنسان، بل أوجدتها قوة خارجة عن الإنسان، لأن كل ما هو من ابتكار الإنسان يقتضي الاختلاف. ومما قد يدل على أنها خارجة عن الإنسان هي طبيعة العلوم الطبيعية، فما هي إلا كشفٌ عما هو موجود! وهذا ما يفعله العلماء، إنهم يكشفون القناع عن أسرار الطبيعة والوجود الإنساني. والوجود الإنساني يعني التحرر من قيود الضرورة المفروضة على الوجود ليظفر بحريته، وهذه الحرية شرط للإبداع الخلاق في الأدب والعلوم والفنون، وكذلك الدين. فإذا ما وجدت الحرية متنفسها في الخيال الإنساني، اللامحدود بطبعه، فإن العقل يبدع ويُغْني الحياة، فالحرية تسمح بالخروج عن المألوف، حيث يجد الإبداع طريقه. وهكذا، تكوّن الحرية فضاء المعرفة التي تحمي الإنسان من التقليد في الفن، وحشو الكلام في الأدب، والكهنوتية في الدين، وادعاء الحقيقة المطلقة في العلم. إن سبيل الحرية هي سبيل الإبداع الإنساني، كما أن حرية الإنسان لا يمكن أن تكون أوسع من معرفته!

لذلك يمكن القول إنه لا يمكن أن يكون هناك دين عالمي أو فن عالمي أو آداب عالمية، وحده العلم استطاع أن يكون عالميا. ولعل السر في عالميته يكمن في طبيعته التي تتوافق مع طبيعة الحياة، كيف؟ إن الحياة في جدة مستمرة، وكذا العلم ثائر على ماضيه، يصحح مساره ويتجاوز نفسه في تجديد مستمر.

* لفتة:
عندما ذكر التنزيل الحكيم بأن الدين عند الله هو الإسلام، وأن الإسلام يعني الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح .. لعل هذا يعني أن الدين بهذا المعنى الواسع، وبهذه الوحدة التي قررها التنزيل الحكيم، أقول لعله يعني أن مصدر الدين من خارج الإنسان، وليس للإنسان أن يتحكم أو يغير هذا الدين، كما أن هذا لا شأن له باختلاف الناس في مناسكهم وشعائرهم. فاختلاف الملل لا يعني اختلافا في الدين.

ولكن هذا أيضا لا يجعل الدين موضع اتفاق من العالم أجمع، لذا يبقى العلم وحده هو من استطاع أن يكون عالميا. أما ما يسمى بالثقافة العالمية، فإن كانت تعني ثقافة تحتوي على كل الثقافات مع الاحتفاظ بخصوصية كل ثقافة كما هي، فلا بأس بذلك، أما إن كانت تعني اندماج الثقافات في ثقافة واحدة، فإن هذا إيذان بقتل التنوع والاختلاف الإنساني، وذلك من خلال اختزال الثقافات الإنسانية المتعددة والمتنوعة والمختلفة في ثقافة مركزية واحدة. فالتنوع والاختلاف في مجالات الفن والأدب يعكس خصوصية ومحدودية التجربة الإنسانية، ودمجها في ثقافة واحدة سيؤدي إلى الافتقار بدلا من الاغتناء.

إذن؛ لنبارك التنوع والاختلاف والوفرة والتي ستقود إلى التكامل والتواصل وإلى إثراء الحياة الإنسانية ... وما أتعس المتماثلون .. كقطيع الأغنام!
------
** والقصد هنا أن المعرفة العلمية حين يُكشف عنها؛ لا تتغير بتغير الإنسان الذي كشف عنها. ومن يتتبع تاريخ العلم يجد أن المعرفة العلمية معرفة تراكمية، بمعنى أن النظرية العلمية الحديثة تحتوي على القديمة وتتجاوزها.