الخميس، 9 نوفمبر 2017

مرض الورديّة

 تهدف هذه النشرة للتعريف بمرض الوردية. لكنها لا تغني عن استشارة الطبيب المختص.

ما الوردية؟ 
-       مرض الوردية: هو طفح جلدي مزمن (الوجه)، وقد يصيب أحيانا العينين، عادة بعد سن 30. ومع ذلك، قد يصيب مختلف الأعمار. والوردية أكثر شيوعا في النساء، ولكن أكثر حدة عند الرجال.

ما أعراض الوردية؟ 
** تكون الإصابةُ بالوردية غالبا على الوجه، خاصة الخدين والجبين والذقن والأنف، ولا تقتصر على ذلك، ومن أعراضها:
-       احمرار متكرر للوجه.
-       أوعية دموية متوسعة حمراء صغيرة تحت الجلد.
-       بثور حمراء صغيرة أو بثور قيحية تشبه حب الشباب.
-       جفاف وقشور في المناطق المصابة. 
-       تورّم الأنف (عادة عند الرجال) نتيجة تضخم الغدد الدهنية
-       أحيانا، قد يكون هناك بعض التورم في الوجه (الوذمة اللمفية)، وخصوصا حول العينين.
-       حكة مع احمرار وجفاف في العينين والجفون، وأحيانا مشاكل في الرؤية.
-       إحمرار الوجه المتكرر قد يؤدي إلى الحرج، وانخفاض تقدير الذات والعزلة الإجتماعية.

ما أسباب مرض الوردية؟
لا يُعرف سبب مرض الوردية بالضبط، لكن هناك فرضيات عدة؛ منها
-       وجود خلل في إنتاج ببتيدات كاثلسيدين التي تحفز الالتهاب المفرط وتكوين الأوعية الدموية.
-       قد يكون للفطريات الموجودة على الجلد دور؛ حيث توجد بكميات كبيرة عند المصابين بالوردية، كما يوجد ارتباط بين الوردية والإصابة ببكتيريا (جرثومة) المعدة.
-       كما أن الاستخدام غير المناسب (بدون وصفة طبية) للمستحضرات الموضعية التي تحتوي على الكورتيزون على الوجه، يمكن أن يسبب الوردية.

وهذه مجموعة من العوامل التي قد تُثير الوردية، وليس بالضرورة عند كل المرضى: 
-       التعرض لأشعة الشمس.
-       الطعام الذي يحتوي على التوابل (البهارات الحارة)، وكذلك المشروبات الساخنة مثل القهوة.
-       المواقف المحرجة والتوتر العاطفي.
-       درجات الحرارة العالية والمنخفضة. 
-       المجهود البدني.
-       شرب الكحوليات.

هل الوردية مرض وراثي أو مرض معدٍ؟ 
-       لا يوجد رابط وراثي واضح، كما أنها غير معدية.

كيف سيتم تشخيص الوردية؟ 
-       الوردية يتم تشخيصها من خلال الفحص السريري (الإكلينيكي)، ولا تحتاج لفحوصات مختبرية.

كيف يمكن علاج الوردية؟

1. العناية الذاتية 
-       التقليل من العوامل المسببة لتهيج البشرة (المذكورة سابقا) مثل تناول الاطعمة الحارة والغنية بالبهارات وكثرة استعمال المياه الحارة.
-       حماية البشرة من أشعة الشمس واستخدام واقي الشمس (خالي من الزيوت) على الوجه يومياً. 
-       تجنب فرك/ حك الوجه، واستخدم بدلا من ذلك كمادات باردة. 
-       استخدام مرطب بشكل منتظم، والترطيب المستمر للعينين.
-       استخدام الغسول بدلا عن الصابون.
-       يمكن استخدام مستحضرات التجميل التي تساعد على إخفاء الاحمرار المفرط عند الحاجة. 
-       تجنب المستحضرات الموضعية التي تحتوي على الكورتيزون، إلا إذا وصفت من قبل الطبيب.

2. علاجات موضعية: يمكن التحكم بالوردية الخفيفة بواسطة العلاجات الموضعية.
-    نؤكد على استخدام الكريمات المرطبة بشكل دائم ومنتظم.
-   ومن أهم العلاجات الموضعية كريم أو جل ميترونيدازول (Rosex 0.75% gel / cream) وكريم حمض الإزيليك وغيرها. 
-  العلاجات المضادة للإلتهاب مثل مرهم التاكروليمس و كريم بمكروليمس. 

-  من العلاجات الموضعية الجديدة: كريم سولانترا (Soolantra 1% cream)، و كريم روفيد (Rhofade1% cream)، و جل ميرفازو (Mirvaso 0.33% gel).

3. المضادات الحيوية عن طريق الفم: 
-       تستخدم في حالة الوردية المتوسطة أو الشديدة.

4. العلاجات الأخرى: 
-       أقراص الايزوتريتنوين (Isotretinoin) في حالة الوردية الشديدة، ولا ينصح أخذه إلا بوصفة طبية.
-       احمرار الخدين والأوعية الدموية المتوسعة يمكن علاجها بالليزر.
-       تضخم الأنف او تضخم الغدد الدهنية يمكن تحسينها بالليزر أو الإجراءات الجراحية.
-       في حالة وردية العين يجب مراجعة طبيب العيون، مع الاهتمام  بنظافة الجفن، والمداومة على استخدام قطرات العين المرطبة والترطيب المستمر للعينين.

* قد يحتاج بعض المرضى لاستخدام أكثر من علاج موضعي مع أو بدون طرق العلاج الأخرى للتحكم في نشاط المرض، ولتجنب المضاعفات.

مضاعفات مرض الوردية
-       الوردية مرض مزمن ويتطلب من المصاب التكيُف معه.
-       التهابات بالعينين.
-       تضخم الأنف أو تضخم الغدد الدهنية (رينوفيما)، وهي مرحلة متقدمة من مراحل الوردية.

الثلاثاء، 3 أكتوبر 2017

حيرة المرضى من اختلاف الأطباء

ذهب السيد المريض إلى عيادة الطبيب، يشكو له ما قد ألمّ به من ألم، وبعد الكشف عليه، أخبره الطبيب أن ما يعاني منه هو المرض (ض)، ثم صرف له الدواء (م). لكن السيد المريض لم يخبر الطبيب أنه قد ذهب إلى طبيب آخر قبله !! وكان الطبيب الأول قد ذكر له نفس التشخيص (ض) إلا أنه صرف له الدواء (گ).

يبادر السيد المريض، وكعادة أفراد المجتمع، إلى استشارة الأهل والأصدقاء وقبل ذلك يستشير أولئك الذين يجلسون في مقاعد الانتظار (لصرف الدواء)، ويبدأون في الخلط والعجن في عراء مكشوف معرض للأتربة وعوادم السيارات، فيخرج المريض من تلك الاستشارات بتوصيات ملوثة غالبا ما تستهدف ذاكرته قصيرة الأمد فتُنسيه ما قاله الطبيب منذ لحظات.

ليس هناك أدنى شك في أنه من حق المريض أن يأخذ رأيا طبيا ثالثا ورابعا وعاشرا، أقول رأيا "طبيا" بمعنى أن يستشير طبيبا، لا أن يأخذ رأي زميله في العمل، ولا رأي عطار وإن كان يبيع أعشابه بتصريح من وزارة التجارة ! لكن يبقى السؤال الذي حيّر هذا المريض وغيره من المرضى: لماذا يختلف الأطباء في طرائق علاجهم؟ لماذا صرف طبيبنا الدواء (م)، بينما صرف الطبيب الأول الدواء (گ) لنفس المريض ؟

إنّ ما يغيب عن الكثيرين أنّ الطب (إنْ اُعتبر علما*) أقرب من العلوم الإنسانية منه إلى العلوم الطبيعية ! وماذا يعني هذا ؟

إنّ العلوم الطبيعية هي علوم بالغة الدقة تقترب دقتها من دقة الرياضيات، كالفيزياء والكيمياء والأحياء، بينما العلوم الإنسانية هي علوم نسبية تختلف باختلاف الإنسان، كعلوم الاجتماع والنفس والاقتصاد. وفي حالة السيد المريض كان الاختلاف في الطبيب. وحسبك أن تسأل أحدهم: هل أنت وفلان نفس الشيء ؟
وجوابه سيكون بالنفي.
وهنا نسأله: فلماذا تتوقع أن تأخذ نفس الدواء الذي يأخذه فلان ؟ 
فإن أجاب بأنه وفلانا يعانيان من نفس المرض. قلنا له: إننا نعالج المريض، وليس المرض! وهنا نتذكر قول أبي حامد الغزالي، إذ قال: "لو عالج الطبيب جميع المرضى بنفس الدواء لمات معظمهم". وقد علّق الفيلسوف المعاصر سيد حسين نصر على ذلك بقوله: "من الأمور المتناقضة أنه في الحضارة الحديثة التي تنادي بالفردانية نجد في الطب تماثلا شديدا يفترض أن تأثر جميع الأجسام بالعقاقير هو عينه أو يكاد، في حين أنه في الطب التقليدي الذي كان ينتمي إلى حضارة يخضع فيها نظام الأفراد للنظام العام، كان كل فرد يعالج بطريقه خاصة، ويعد مزاجه خلطا من الأخلاط لا يمكن أن يوجد أبدا بنفس التوازن في فرد آخر" .. وهنا يجب التأكيد على أن لكل إنسان فرديته الخاصة به التي تميزه عن الآخرين بغض النظر عن اشتراكه مع غيره في الإصابة بنفس المرض أو في أي شيء آخر.

وإنْ كان قد قيل إن ما ينبغي معرفته هو السبب، فإن ما يجب أن يسعى المريض لمعرفته أولا هو تشخيص حالته. فقد يوفق الطبيب إلى تشخيص المرض، وقد لا يصل الطبيب إلى تشخيص حالة المريض إلا بعد إعطائه العلاج ومتابعة حالته في قادم الزيارات ! وإن كان تطور وسائل الفحوصات المخبرية وتقنيات التصوير الطبي قد ساهم في تطور الطب وتمكين الطاقم الطبي من الكشف عن الأمراض وتشخيصها، إلا أن هناك حالات مرضية قد تستدعي من الطبيب علاج المريض ومتابعته لمعرفة ما إذا كان الطبيب قد وفق في تشخيص حالة المريض، وهنا يستخدم الطبيب منهج المحاولة والخطأ، ثم معرفة سبب الخطأ وبالتالي معرفة الصواب. كما أنه ليس من مهام الطب معرفة "لماذا" حدث المرض (وإن نجح في حالات كثيرة)، ولكنه في أحسن الأحوال قد يخبرنا "كيف" حدث المرض، لذلك يُرجع الأطباء أسباب حدوث المرض لأسباب تخص المريض من حيث قابليته لأن يصاب بالمرض (أسباب جينية)، ولأسباب بيئية (كتعرضه لعدوى معينة).

ولا شك أن الوعي الذي يملكه المريض عن وضعه الصحي ليس وعيا عاريا أبدا، كما أن الطبيب لا يتجاهل التجربة المعيشة للمريض وحضور آثار الثقافة والمجتمع والتاريخ، وتأثير كل ذلك في وعي المريض.

لذا قد يتذمر المريض من مستوى الخدمات الطبية المقدمة، خاصة إذا تعلق الأمر بتأخير علاجه أو عدم توفره (وهنا لا يلام الأطباء، وإنما يقع اللوم على النظام الصحي !!)، أو يتذمر عندما يتسبب العلاج بمضاعفات محتملة ومعروفة؛ وعند حدوث ذلك وبدلا من أن يتجه المريض إلى طبيبه، يستعين بوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ! والتي بدلا من أن تساهم في بناء الوعي الصحي السليم لدى الناس، تعمل على التأجيج ضد الخدمات الطبية والأطباء، والمتاجرة بآلام المرضى واحتياجاتهم، مما يعني مزيدا من التضليل الإعلامي. كما لا يخفى ما يصدر عن المنابر الخطابية من إساءة للعاملين والعاملات في المجال الصحي بين الفينة والأخرى. فهل ينتبه الإعلام إلى دوره في بناء الوعي الصحي السليم؟ ثم هل يسعى الإعلام إلى لعب دوره في تنوير المجتمع؟ 

وأما الأطباء فهم أبعد من أن تهزهم آراء لا تحمل في جوهرها سوى خطابات عاطفية عديمة الفائدة والنظر، إذ يتوجب عليهم أن يحملوا بمسؤولية واجبهم تجاه المرضى، وأن لا يكونوا ما يطلبه الجمهور! لأنهم يعلمون جيدا أن الهدف المنشود من الطب هو المحافظة على حياة الإنسان ليس فقط بزيادة عدد أيام عمره، بل كذلك بإعطاء أيامه حياة نوعية، وكما يقول جورج كانغيلام: "إنْ كانت الإنسانية قد اتخذت لنفسها طبا، فلأنها ما كانت لتستطيع العيش من دونه".

لكن ! وعَوْدا على حالة السيد المريض، ما الذي يتحكم في اختيار الطبيب لدواء معين ؟ بمعنى، ما هي الأسباب التي جعلت الطبيب الأول يختار الدواء (گ)، بينما الآخر الدواء (م) ؟ هناك عدة عوامل تؤثر على اختيار الطبيب للدواء، نذكر منها على سبيل المثال:

1. عوامل تخص المريض، وهي من أكثر العوامل التي تحدد اختيار الدواء، مثل حالته الصحية بشكل عام (يعاني من أمراض أخرى، أو يستخدم أدوية وإن كانت دون وصفة طبية، طبيعة عمله، مكان إقامته أي بعده أو قربه من الخدمات الطبية، استخدم أية أدوية من قبل لنفس مرضه الحاضر، تفضيل المريض، .. الخ).

2. عوامل تخص الطبيب وعادة تعتمد على تفضيل الطبيب لدواء معين لهذا المريض وآخر لذاك، وكذلك خبرته مع الأدوية ومع المرضى، فكما يقال: الخبرة تعلم.

3. وهناك عوامل تخص النظام الصحي بشكل عام، كعدم توفر الدواء على سبيل المثال.

ولو ضربنا مثالا نوضح من خلاله كيف تؤثر هذه العوامل على اختيار الطبيب للدواء، فقلنا: إذا كان السيد المريض قد قدم للطبيب الأول معلومات معينة، ثم عند زيارة الطبيب الثاني قدم معلومات إضافية عن وضعه الصحي، فإن هذا مما يساهم في اختلاف الطبيبين في اختيار الدواء. لذلك، حتى وإن اختلف الأطباء في طرائق علاجهم، إلا أنهم اتفقوا على العناية بالمريض وإعادة الصحة له.

وأخيرا؛ يقول البروفسور الفرنسي ديديه سيكار: "إن كان الطب هو طب تسكين الآلام، فإن طب المستقبل هو طب الثقة".

*****
* يرى جورج كانغيلام أن الطب فنٌ في ملتقى طرق عدة علوم، أكثر من كونه علما مستقلا وقائما بذاته.

الجمعة، 29 سبتمبر 2017

مشكلة الشر

إن ما نشهده في الواقع العربي من صراعات وحروب وتزايد في أعداد الضحايا (واليوم، كل الذين يلقون حتفهم في الحروب ضحايا)، وما نتج وينتج عن ذلك من مآسي وآلام حتى أن الأمل يكاد يختنق في قبضة الشر. كل هذا جعل الكثير من التساؤلات تطفو على السطح محاولة النجاة من هذا الاختناق. وهذه التساؤلات إنما تتمركز حول مشكلة الشر، أي عن سبب وجود الشر في هذا العالم، وكيف يمكن التوفيق بين وجود الشر كشيء واقعي وملموس، وبين وجود إله خالق ورحيم وعلى كل شيء قدير. 

ومن المعروف أن الشر موجود منذ الإنسان الأول، بل هو قبل ذلك في عالم الحيوان والطبيعة. ولا شك أن الفكر الإنساني قد تعرض لمشكلة الشر محاولا التوفيق بين وجود الشر في العالم كشيء واقعي وملموس، وبين العناية الإلهية بالخلق. فكيف استطاع الفكر الإنساني معالجة هذه المسألة؟

تشرق علينا أولا إحدى أقدم الفلسفات الشرقية، ألا وهي الطاوية. ففي الطاوية؛ يُنظر إلى الحياة والإنسان والوجود بأكمله، على أنه نتاج قوتين ساريتين في كل مظاهر الوجود، هما الـ"يانغ" و الـ"ين"، وهما على تعارضهما إلا أنهما متعاونتان، فلا قيام لأحدهما في معزل عن الأخرى، فكل ضد يتخذ معناه من ضده. حيث لا نور بلا ظلام، ولا خير بلا شر، ولا حياة بلا موت، وحيث الوجود وكل مظاهره في حالة تناوب تلقائي. وهكذا ترى الطاوية أن وجود الشر مقرون بوجود الخير. وأنه لولا وجود أحدهما لما وجد الآخر. وهذه النظرة سابقة لفلسفة هرقليطس*، أي اجتماع الأضداد، ومفادها أن الخير ضد الشر، ولا يوجد الضد من غير ضده، فوجود الخير يستدعي وجود الشر، ومن الخطأ أن نريد أحدهما دون الاخر، لأن انتفاء أحدهما يعني انتفاء الآخر. واسمع لقول الحكيم الصيني لاو-تسو، وهو أحد حكماء الطاوية، إذ يقول: "الحكيم هو الذي يدرك قطبية وجوده ووجود العالم، وصيرورة الأحداث فيه، ويرى في كل مظهر لليانغ بذرة ين تنمو في أعماقه، وفي كل مظهر للين بذرة يانغ". 

وفي الفلسفة اليونانية، نجد أن الرواقية قد حاولت إيجاد حل للتوتر القائم بين العناية الإلهية وبين مشكلة الشر، فذهبت إلى أنه لا شر هناك إذا نظرنا إلى الأمر نظرة كلية كونية، فلكل شيء في الكون مكانه ووظيفته وغايته وطبيعته، وما يسميه الناس شرا إنما هو شر من حيث الجزء لا من حيث الكل، بينما هو يتجه في الحقيقة إلى كمال المجموع. ووجود الشر في الجزيئات شرط لخير الكل. 

أما في الفكر الديني، فإن أكثر المفكرين المسيحيين اهتماما بالشر في عصر الآباء هو أوغسطين، إذ يميز بين الشر الأخلاقي - أو الخطيئة - وهو ليس من صنع الله، بل من صنع الإرادة الإنسانية التي تستطيع الاختيار بين الخير والشر، وبين الشر الفيزيائي الذي يعكس العدالة الإلهية، من حيث أنه عقاب للإنسان عن خطيئته الأولى. وفي هذا قال لاكتانس (النظام الإلهي): "كل شر إنما يصدر عن إرادة الإنسان، فهو الذي يختار الشر كما يختار الخير، والشر إنما ينتج عن إساءة استعمال الإنسان لحريته في الاختيار".

وإذا تأملنا ما ذكره الفكر الإسلامي عندما تعرض لمعضلة الشر، نجد أنه يقرر بأن الله هو وهو فقط الخير المحض، وأنه قد خلق عالم الوجود، ولأن الخلق يستلزم انفصال عالم الوجود عن منبع الخير المحض؛ صار ذلك الانفصال سببا في ظهور الشر. وبعبارة أخرى؛ إن الله هو الخير المطلق، ولا يمكن لشيء آخر أن يكون خيرا مطلقا؛ لأنه لا يمكن لشيء آخر أن يكون الله.

إذن، عالم الوجود - بانفصاله عن منبع الخير المحض والكمال المطلق اللامتناهي - قد وُجد من الكمال ولكنه يحتوي على نقص. إن هذا الكمال هو الخير وهو أمر وجودي، بينما الشر أمر عدمي يعبر عنه النقصان (أي عدم الكمال). فالشيء الواحد في كماله الخير وفي نقصانه الشر، فهو (أي الشيء) يتردد بين قطبين متناقضين يضمهما في داخل ذاته، وهنا حركة جدلية بين ثنائية الأضداد في الشيء نفسه، فالضد هو الشريك أيضا، ولهذا قال عبد الرحمن بدوي: "إن الوجود نسيج الأضداد". وقد قيل إنه في عالم الوجود؛ لا يوجد خير محض ولا شر محض، أي أن في أي خير يوجد شر، وفي أي شر يوجد خير.




وهنا قد يسأل سائل: أين العدالة الإلهية في عالمنا؟ 

لقد قلنا: إن عالم الوجود، والذي انفصل عن الخير المحض، قد وُجد على نقص هو الشر. ولذلك فإن العدالة الإلهية المطلقة لن تكون في هذا العالم الذي يعوزه الكمال المطلق. وهنا نستطيع أن نقول أن عالم الوجود ليس ساحة للعدالة الإلهية، وهذا هو سبب الإيمان بأن العدالة الإلهية سوف تتحقق في الحياة الآخرة عندما تتغير قوانين عالم الوجود، فلا جدلية في الشيء نفسه (حياة وموت، خير وشر، ... إلخ) ولا أضداد شركاء. ثم لو أن عالم الوجود كان خيرا مطلقا، فليس هناك أي معنى ليوم الحساب الذي ستتحقق فيه العدالة الإلهية. ولنسأل: أليس وجود الشر دليل على أننا موعودون بيوم الحساب؟! 

إن الإنسان وهو جزء من الوجود، تنطبق عليه قوانين الوجود المادي، أي - كما ذكرنا - صراع الأضداد في الشيء نفسه (الموت والحياة، الخير والشر، .. إلخ). وهذا يدعونا إلى الإقرار بطبيعة الكائن البشري (كما يؤكدها علم النفس) والتي تتمثل في وجود الخير والشر في طبيعته التكوينية، وأن ذلك بدون اختيار منه، ولذلك فقد أُعطي الإنسان الحرية في اختيار أفعاله، ليفعل ما يختاره هو نفسه بلا إجبار ولا إكراه. وهذه الحرية هي أساس الوجود الإنساني، فالإنسان حرّ في خياراته بين الطاعة والمعصية، والخير والشر. وهذه الحرية هي التي جعلت الإنسان مسؤولا عن أفعاله، تلك الأفعال التي سيحاسب عليها فيما بعد، أي عندما تتجلى العدالة الإلهية في يوم الحساب. 

إن ثنائيات الخير والشر، الطاعة والمعصية، الصواب والخطأ، الحق والوهم أصل في طبيعة الإنسان الوجودية، "كل ابن آدم خطاء"، وطبيعة الإنسان هذه هي ما فتحت باب التوبة أمامه، ولعل هذا بعض ما يخفف عليه ثقل التقصير والمعصية. لأن معرفة أننا نتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا القدر الكبير من الشر يثقل كاهلنا، لذلك "نفضل أن نجد الشر مقيما في أفراد المجرمين أو في جماعاتهم، بينما نقوم بغسل أيدينا تنصلا من الميل العام إلى الشر وتجاهلا له". وهنا تظهر ميزة عظيمة تقوم بها الأديان السماوية إذ تعمد إلى التسليم بمبدأ ميتافيزيقي للشر، حيث أنها تخفف عن ضمير الإنسان مسؤولية بالغة الثقل إذ تلقيها على عاتق الشيطان. 

إن حرية الإنسان في أفعاله (الطاعة والمعصية، الخير والشر، ... إلخ) تمثل أساس موضوع الأخلاق. والإنسان من الوجهة الأخلاقية - كما يقول جيمس هنري برستد - لا يزال طفلا يلعب في داخل حجرة مملوءة بلعب خطرة جدا لم يتعلم بعد كيفية استعمالها، وبذلك يُحدث باستمرار أضرارا جسيمة، لا لنفسه وكفى، بل لكل المبنى الذي يعيش فيه. 

وخلاصة القول:
1. إن وجود الشر لا يتعارض مع وجود إله خالق ورحيم وعلى كل شيء قدير، إنما الشر كان نتيجة لخلق عالم الوجود من قبل إله لامتناهٍ وخير محض. 
2. يكمن كلٌّ من الخير والشر في تكوين الإنسان، وأن ذلك بدون اختيار منه، ولذلك أُعطي الحرية لاختيار أفعاله. 
3. إن حرية الإنسان هي أساس الأخلاق. 
4. إن طبيعة الإنسان والتي يعتريها النقص والخطأ هي ما فتحت أبواب التوبة أمامه. 
5. إن معرفة أن الإنسان في وسعه أن يعمل الشر كما يعمل الخير يجب أن تكون الحافز للعمل على تربية الجنس البشري تربية أخلاقية تسعى للحد من الشر. 

وأخيرا، يقول محمد شحرور: لقد ربط التنزيل الحكيم بين وجود الخير والشر في هذا الوجود وبين ظاهرة الموت في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون). ولهذا فإن مثَل الطامع بإلغاء الشر كمثل الذي يطمع بإلغاء قانون الموت، وهذا محال؛ لأن ظاهرة الموت قانون من قوانين الوجود ولا يمكن القضاء عليها. 



****
* هرقليطس .. الفيلسوف صاحب الفكرة الجديدة
http://khaled-mohajer.blogspot.com/2016/11/blog-post_20.html

الأربعاء، 13 سبتمبر 2017

ما سرُّ عالميته؟

إن كل ما هو إنساني أو يختص بالإنتاج الإنساني يختلف بحسب اختلاف الإنسان الذي يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، وكذلك يختلف باختلاف اللغة والبنية الاجتماعية، والبيئة (من خلال موقعها وجغرافيتها)، وباختلاف تاريخه وموروثه. وكل تلك العوامل تعمل على تكوين ثقافته وآدابه وفنونه وعاداته وتقاليده. وهذه العوامل تؤثر وتساهم في تكوين شخصية الإنسان ليكون فردا متميزا عن غيره في تصوراته ومواقفه وخبراته وطريقة تفكيره وأنماط سلوكه. فما يميّز المجتمع الإنساني هو أن أفراده يختلفون فيما بينهم، وليس يُعرف مجتمع يتماثل أفراده إلا في المجتمعات الحيوانية، كالنمل مثلا.

والحديث هنا عن ما يبدعه الإنسان، وما يميز نتاجه من اختلاف تنوع وتعدد يعكس اختلاف الإنسان كفرد مستقل بذاته، وكعنصر فاعل في المجتمع الذي ينتمي إليه. فالدين* مثلا، يختلف من أمة لأخرى سواء كان هذا الاختلاف في المعتقدات كالإيمان باليوم الآخر، أو في جانب القيم الأخلاقية والذي يشمل المعاملات والمحرمات، أو في الجانب التشريعي أي الحدود، أو الجانب الشعائري الطقوسي كالصلاة مثلا. ولا أوضح من اختلاف الناس في دينهم الذي يتبعون، فتجد المسيحية في الغرب، والهندوسية والبوذية في الشرق وبينهما أتباع الرسالة المحمدية، وهنا وهناك توجد طوائف وأديان أخرى. 

والفن بمختلف أنواعه (الفن التشكيلي كالتصوير، والنحت، والعمارة، أو الصوتي كالموسيقى، أو الحركي كالرقص، .. الخ)، كل هذه الفنون هي نتاج الإنسان وهي ما يعبر عنه الإنسان بحسب خلفيته الثقافية الموروثة وواقعه المعيش. فتجد على سبيل المثال الفن الصيني، والفن العربي أو ما يسمى أرابيسك، والفن الفارسي، والموسيقى الشرقية والغربية (وإن لم يتفق على هذا التقسيم)، والرقص الشرقي والغربي، وهكذا. فالفن لا يعكس واقع التجربة الإنسانية فقط، بل يكون أداة لنقد الواقع المعيش، ووسيلة للتعبير عن رفضه أو قبوله.

وكذلك في الأدب سواء أكان شعرا أم نثرا كالرواية والقصة القصيرة والمسرح والتراجم والنقد، فهو كذلك يختلف تبعا لاختلاف الإنسان، والذي يستخدم أسلوبه الأدبي ليدلي برأيه الشخصي، ويجب أن يعكس هموم مجتمعه، معبرا عن ذلك بلسان لغته، ليمارس الأديب دورا فاعلا في الحياة الاجتماعية. وكذا تختلف الآداب العامة مثل آداب تقديم الطعام وطريقة اللباس، ونظام المسكن وحفلات الزواج والولادة ومراسم دفن الميت وغيرها من العادات والتقاليد.

أما العلم، والمقصود هنا العلوم الطبيعية، كالفيزياء مثلا، فلا يختلف باختلاف الإنسان**، وهذا ما قد يشير إلى أن ما تكشف عنه العلوم الطبيعية ليست إنسانية، أي أن مصدره ليس إنسانيا، بل هو قانون أو قوانين الطبيعة الذي لا تعبأ بالإنسان! ولا شك أن هذا يحرك السؤال القديم: مَن وضع قوانين الطبيعة؟

إن الإجابة على هذا السؤال عند المسلمين سهلة يسيرة، إذ يقولون: "الله خالق كل شيء"، ويقصدون أن الله هو الذي أوجد كل شيء، بمعنى التكوين (كن فيكون)، أما الخلق فيعني التصميم. إذن؛ وحدة قوانين الطبيعة تعني أنها ليست من لدن الإنسان، بل أوجدتها قوة خارجة عن الإنسان، لأن كل ما هو من ابتكار الإنسان يقتضي الاختلاف. ومما قد يدل على أنها خارجة عن الإنسان هي طبيعة العلوم الطبيعية، فما هي إلا كشفٌ عما هو موجود! وهذا ما يفعله العلماء، إنهم يكشفون القناع عن أسرار الطبيعة والوجود الإنساني. والوجود الإنساني يعني التحرر من قيود الضرورة المفروضة على الوجود ليظفر بحريته، وهذه الحرية شرط للإبداع الخلاق في الأدب والعلوم والفنون، وكذلك الدين. فإذا ما وجدت الحرية متنفسها في الخيال الإنساني، اللامحدود بطبعه، فإن العقل يبدع ويُغْني الحياة، فالحرية تسمح بالخروج عن المألوف، حيث يجد الإبداع طريقه. وهكذا، تكوّن الحرية فضاء المعرفة التي تحمي الإنسان من التقليد في الفن، وحشو الكلام في الأدب، والكهنوتية في الدين، وادعاء الحقيقة المطلقة في العلم. إن سبيل الحرية هي سبيل الإبداع الإنساني، كما أن حرية الإنسان لا يمكن أن تكون أوسع من معرفته!

لذلك يمكن القول إنه لا يمكن أن يكون هناك دين عالمي أو فن عالمي أو آداب عالمية، وحده العلم استطاع أن يكون عالميا. ولعل السر في عالميته يكمن في طبيعته التي تتوافق مع طبيعة الحياة، كيف؟ إن الحياة في جدة مستمرة، وكذا العلم ثائر على ماضيه، يصحح مساره ويتجاوز نفسه في تجديد مستمر.

* لفتة:
عندما ذكر التنزيل الحكيم بأن الدين عند الله هو الإسلام، وأن الإسلام يعني الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح .. لعل هذا يعني أن الدين بهذا المعنى الواسع، وبهذه الوحدة التي قررها التنزيل الحكيم، أقول لعله يعني أن مصدر الدين من خارج الإنسان، وليس للإنسان أن يتحكم أو يغير هذا الدين، كما أن هذا لا شأن له باختلاف الناس في مناسكهم وشعائرهم. فاختلاف الملل لا يعني اختلافا في الدين.

ولكن هذا أيضا لا يجعل الدين موضع اتفاق من العالم أجمع، لذا يبقى العلم وحده هو من استطاع أن يكون عالميا. أما ما يسمى بالثقافة العالمية، فإن كانت تعني ثقافة تحتوي على كل الثقافات مع الاحتفاظ بخصوصية كل ثقافة كما هي، فلا بأس بذلك، أما إن كانت تعني اندماج الثقافات في ثقافة واحدة، فإن هذا إيذان بقتل التنوع والاختلاف الإنساني، وذلك من خلال اختزال الثقافات الإنسانية المتعددة والمتنوعة والمختلفة في ثقافة مركزية واحدة. فالتنوع والاختلاف في مجالات الفن والأدب يعكس خصوصية ومحدودية التجربة الإنسانية، ودمجها في ثقافة واحدة سيؤدي إلى الافتقار بدلا من الاغتناء.

إذن؛ لنبارك التنوع والاختلاف والوفرة والتي ستقود إلى التكامل والتواصل وإلى إثراء الحياة الإنسانية ... وما أتعس المتماثلون .. كقطيع الأغنام!
------
** والقصد هنا أن المعرفة العلمية حين يُكشف عنها؛ لا تتغير بتغير الإنسان الذي كشف عنها. ومن يتتبع تاريخ العلم يجد أن المعرفة العلمية معرفة تراكمية، بمعنى أن النظرية العلمية الحديثة تحتوي على القديمة وتتجاوزها. 

الأربعاء، 2 أغسطس 2017

غذاء الشيطان

الشيطان؛ هذا الذي يعمل عمله في الإنسان، فيؤزّه أزّا لارتكاب الشرور!

كيف لنا أن نكشف عنه؟ وكيف لنا أن نتعرف على الوسائل التي يعتمد عليها لإلحاق الأذى بهذا الإنسان الضعيف؟ .. لأن معرفتنا لهذه الوسائل التي يتغذى بها الشيطان ليستمر في كيده للإنسان، ستمكننا من كشف القناع عن جانب من جوانبه الخفية، وبعدها قد نستطيع محاصرته والحد من نفوذه وتسلطه! ثم إن تلك المعرفة قد تعيننا على الوصول إلى مصلٍ يكسبنا مناعة ضد وساوسه اللعينة.

فعلامَ يتغذى الشيطان ؟!

لا شك أن هناك أسئلة كثيرة يمكن إثارتها إذا اعتبرنا الشيطان شيئا منفصلا عن الإنسان!
لكن !!
ماذا لو كان الشيطان رمزا للشر الإنساني ؟
أي أن الشيطان ليس إلا كناية عن الشر الإنساني!!
وبتعبير رياضي : الشيطان = الشر الإنساني

حينها يكون غذاء الشيطان هو غذاء الشر الإنساني، فما هو هذا الغذاء؟ وهل يكون غذاؤه من خارج الإنسان (وهنا يكون الإنسان ضحية عوامل خارجة عنه) أم أنه موجود في الإنسان ذاته (وهنا يكون متعلقا بحرية الإرادة لدى الإنسان)؟

إن ظاهرتي الخير والشر تكون في العمل الإنساني، ولذا توجب علينا أولا أن نعرف ما الذي يتحكم في سلوك الإنسان، أي ما يأتيه من تصرفات واستجابات ظاهرة للعيان بحيث يمكن رصدها. ولمعرفة سلوك الإنسان يلزمنا (ولو بشكل عام) معرفة الجهاز العصبي المتحكم في مختلف أنشطته، وخاصة الدماغ المتربع على عرش السلطة في الجهاز العصبي. 

إن بنية الدماغ البشري حسب نظرية العالم الأمريكي بول ماكلين*، الذي قسمه إلى ثلاثة مناطق: أولها الدماغ الزواحفي؛ والذي يتكون من الجزأين الخلفي والمتوسط من الدماغ، اللذين يحتويان على جذع الدماغ والمخيخ والعقد القاعدية. وهي التي تتحكم في الوظائف الأساسية والسلوكيات الضرورية للبقاء والتكاثر. ثم ثانيا الدماغ الثديي (الجهاز الحوفي) الذي يقع قرب مركز الدماغ، ويتكون من بنى تتحكم في سلوكيات ضرورية للكائنات الاجتماعية وكذلك بنى تتعلق بالعواطف. والمنطقة الثالثة هي القشرة الحديثة للدماغ (اللحاء الجديد) والتي تتحكم في السلوك الإدراكي الأعلى مثل قدرات التحليل والتفكير المنطقي.

والعلاقة بين هذه المناطق الثلاث من خلال وظائفها المتداخلة والمتشابكة: الغريزة (غريزة البقاء والتكاثر) والانفعالات (العواطف) والفكر؛ هي علاقة تكاملية تنافسية لدارات مختلفة من التغذية الرجعية بين مراكز التحكم لاتخاذ القرارات. فعلى سبيل المثال، التفكير المنطقي يأخذ عدة ثوان؛ فهذا يعني أن من المستحيل غالبا إجراء استجابة عقلانية لحالة طارئة، وغالبا ما تكون استجابة انفعالية. ولذا تعتبر الانفعالات (الغضب، الخوف، ..) استجابات فورية، وغالبا لا يتحكم وعينا بها. والعقلانية مثلا هي سيادة الفكر على العاطفة والغزيرة دون إلغائهما. ولا شك أن هناك عوامل أخرى مثل الرغبة والإرادة والعادة وغيرها

إن المتأمل في عصور التاريخ الإنساني يجد أن أكثرها ظلاما هي تلك العصور التي استعلت فيها العاطفة وسيطرت على التفكير العقلاني/ المنطقي وحرمت العقل القدرة التحليلية الناقدة. إن سيادة العاطفة على الفكر نتج عنه اختراع المعتقدات اليقينية التي لا يقبل أصحابها حتى مجرد التفكير في مساءلتها، وهذه الحالة تسمى "التعصب"، حيث استحوذ اليقين على عقل صاحبه ولم يترك فيه مكانا لبديل عنه.

فما التعصب ؟ وما أسبابه ؟ 

عصب: العين والصاد والباء أصل صحيح واحد يدل على ربط شيء بشيء. والعصب: الطي الشديد. ورجل معصوب الخلق كأنما لوي ليا. ومنه العصبة أي جماعة المرء. (معجم مقاييس اللغة)

التعصب (Prejudice) يعني التحيز والتحامل، ويعني الحكم المسبق غير المنطقي، الذي لا يستند إلى خبرة واقعية أو إلى دليل موضوعي. وقد يعرف التعصب بأنه اتجاه سلبي نحو جماعة محددة اجتماعيا. ولهذا الاتجاه مكون معرفي (الأفكار النمطية) ومكون وجداني انفعالي (مشاعر الكراهية)، وهذا المكون الانفعالي هو أكثر ما يميز التعصب.

وهنا نلاحظ أن الانفعالات، التي غالبا لا يتحكم بها الوعي، هي مكون رئيس للتعصب، بينما يغيب التفكير العقلاني الذي يتميز به الدماغ الإنساني عن ساحة التعصب الضيقة. وغالبا ما يولد التعصب مشاعر الكراهية نحو الجماعة المتعصب عليها، وقد يتعدى ذلك إلى سلوكيات عدائية مختلفة تظهر شدة التعصب، حيث افترض غوردون ألبورت خمس درجات للسلوك تتزايد في شدة تعبيرها سلوكيا عن التعصب: أسلوب كلامي أو تعبير لفظي مضاد، التجنب، التمييز من خلال حرمانهم بعض حقوقهم، والاعتداء عليهم العدوان الفعلي، والقتل.

والتعصب عادة ما ينشأ لأسباب دينية أو سياسية أو قومية عرقية، وتمتد أسبابه لتكون علمية أو ثقافية. وكان جون بوردن هالدن قد اعتبر التعصب الديني أحد أهم أربعة ابتكارات بشرية حدثت في الفترة ما بين عامي 3000 ق.م. و 1400م، بالإضافة إلى الاستخدام العام للحديد والطرق المعبدة والتصويت. وليس هناك أوضح من التعصب الديني الذي لطخ واقعنا بأنهار الدم (خاصة ما يحصل بين السنة والشيعة)، والذي غالبا ما يصاحبه تصنيف الجماعات إلى كافرة ومؤمنة. ولعله بات أكثر وضوحا أنه حيثما حلّ التطرف الديني؛ حلّ التعصب. وقد يجرّ التطرف في التفاخر بالأصل والقومية إلى التعصب القومي، سواء كان بين العرب والفرس، أو بين العرب والترك، هذا إذا لم يظن العرب أنهم أشرف المخلوقات على الإطلاق. وليس معنى هذا أن الغرب الأبيض أو الشرق الأصفر أو الشمال الأشقر أو الجنوب الأسمر براء. وقد يكون التعصب في المجتمع الواحد، حين يتوجه من الأغلبية إلى الأقلية، ما يسمى اضطهاد الأقلية. ولا أتردد في القول بأن الاستياء أو الضيق من التنوع والاختلاف بين أفراد المجتمع هو إحدى علامات التعصب. حيث أن التعصب ضد جماعة ما، غالبا ما يكون نتاج الجهل بها، وعدم محاولة التعرف عليها، كما أنه يعكس انغلاقا عن الآخر.

إن التعصب ظاهرة فردية وجماعية، أي أن هناك عوامل نفسية (الإحباط، الإسقاط، الشخصية التسلطية، ..)، وأخرى اجتماعية (التنشئة الاجتماعية) تعمل على تحديد وتشكيل التعصب. [ولهذا كان التعصب أحد مباحث علم النفس الاجتماعي**]

والآن؛ كيف يفكر المتعصبين ؟!

إن ما يغلب على التحكم في قرارات المتعصبين وسلوكهم هو انفعالاتهم مع غياب التفكير العقلاني، وهذا ما يجعل قراراتهم المنبثقة من تفكيرهم الضعيف أكثر فسادا وأعظم خطرا. حيث أن المتعصبين لا يشكّون في صحة عقيدتهم (عقيدة مطلقة)، فهي مسلمة لا تقبل التساؤل، وهي عندهم أصحّ من القول بأن حاصل الجمع بين 1 و 1 هو 2، وذلك لاعتقادهم أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة. ومطلقية اعتقاداتهم تعزز توظيفها الانفعالي، وتمنحهم الوهم بالقدرة الكلية، و "يترافق الشعور بالقدرة الكلية (الطّفْلية) مع حماس نرجسي وتمجيد لفكرة الانتماء إلى هذه الجماعة ممن اصطفاهم الأزل أو التاريخ".

وفي تاريخ نشأة الحركات الدينية، يجري تعبئة الأفراد وربطهم بمثل أو أفكار تنتمي إلى ثقافتهم، ولأن هذه المثل أو الأفكار مطلقة، فهي "تستحق أن يضحي المرء بنفسه لأجلها، وأن يضحي بالآخرين في سبيلها". وفي المتعصبين "تمرد على شيء ما غير مشبع، وموجود وبحث عن شيء ما كامل، يسعون لإحلاله محل ما ينقصهم".

"‏إن المتعصب، المبهور بمثال انسلابي يقضم حريته، يعيش تجربة يجري إنكار مأسويتها .. وهي غالبا ما تخفي عذابا وخوفا من الشعور بالعجز، الشعور بالنقص، فهي التعويض عن الجرح الذي يصيب صورة الذات، وعن الانحراجية المستديمة". ويفرق بولتروير بين المتعصب الأصلي والمتعصب المنقاد. فالأول بيده الأمر/ السلطان الذي يسمح له بأن يعطي لجماعته الإذن بالتغلب على النواهي المفروضة من الأنا الأعلى. (هل عرفتم معنى أمير الجماعة وقائد التنظيم؟!)

ونرجع الآن لنسأل مرة أخرى: ما غذاء الشيطان ؟

لقد رأينا كيف أن الأحكام المسبقة هي أقفال على عقول أصحابها، تمنعهم من قبول الآخرين ورؤية ما لديهم من فضائل ومشتركات، ولهذا التعصب أعمى؛ لأنه يعصب على عقل صاحبه، فيعطّل قوى إدراكه، ويفقده بصيرته، فلا يعود المتعصب قادرا على التمييز، فيضلّ سواء السبيل.

يقول الفيلسوف الأمريكي المعاصر رالف بارتن بري: "إن الحالة المعروفة بالتعصب إنما هي أفظع القوى الإنسانية المدمرة للذات وأقواها شرا. إنها شريرة لأنها تمحو أو تهدم جميع حوافز الرأفة وتزيل ضوابط الفكر النير وهدايته وتجرد الإنسان من نزعته الإنسانية الخيرة وتفسد الحياة وتحقرها في صميمها. إنها أفظع من القنبلة الذرية أو القنبلة الهيدروجينية لأنها تزود بالعاطفة الدافعة التي تسير هذه الآلات".

هكذا يكون التعصب غذاء للشرور الإنسانية، وهكذا يكون التعصب غذاء الشيطان!

وليس من الهين علاج التعصب! فالتعصب كسلوك أو كاتجاه يتطلب تغييرا على مستويات مختلفة، منها: مستوى التنشئة الاجتماعي والعلاقات بين الجماعات، ومستوى التأثير الاجتماعي الذي يتأثر به الأفراد، ومستوى قابلية الأفراد للتعصب.

بل إن البعض يقرر أنه ليس هناك من علاج للتعصب! ذلك أن التعصب ينبثق من تغليب العاطفة على التفكير المنطقي، ولذا هناك إمكانية حقيقية لأن يثور كلما ضعف التحكم فيه وفي الظروف التي تساعده على الظهور.

لقد فطر العقل على كل من الفكر والعاطفة والغريزة، فالفكر المنطقي يحتاج إلى دفء العاطفة، والعاطفة تحتاج إلى نور الفكر. والعقل إنما هو عملية الربط بين المدركات الواردة إليه عن طريق التفكر المنطقي (القشرة أمام الجبهية) والعاطفة (الجهاز الحوفي) ومختلف أجزاء الدماغ، واستخلاص النتائج منها، ثم اتخاذ القرارات المناسبة. 

إن الشيء الذي يمكن أن ينجزه الفرد في سبيل الحد من التعصب على المستوى الشخصي هو اعتماده على التثقيف الذاتي، حيث المعرفة تزيد في المرونة العقلية التي تستطيع كبح جماح الانفعالات الحادة "وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا"، كما أنها (أي المعرفة) توسع من إدراكه لذاته وللعالم الذي يعيش فيه، وتجعله يقول: إما كذا .. وإما كذا.

وختاما هذه الأبيات التي كتبها رابندرنات طاغور:
حيث العقل لا يخاف ، والرأس مرفوع عالٍ
وحيث المعرفة حرة
وحيث العالم لم يُمزق جدرانه التعصب
وحيث تخرج الكلمات من أعماق الحقيقة
وحيث الكفاح المستمر يمد ذراعيه نحو الكمال
وحيث لا يفقد جدول العقل مجراه في صحراء التقاليد الميتة
وحيث يقود العقل نحو ساعات أفسح من الفكر والعمل
تحت سماء الحرية تلك، يا إلهي، أيقظ وطني
----
الهوامش
* أظهرت دراسات بعض التعديلات على هذا النموذج.
** لعله من المهم معرفة كيف تؤدي هذه العوامل إلى التعصب وكيف يمكن عن طريق فهمها كبح التعصب.
----
المراجع
1. مستقبل العقل، الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته ،ميشيو كاكو، ت. سعد الدين خرفان، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الأولى، 2017
2. سيكولوجية التعصب، هاينال وآخرون، ت. خليل أحمد خليل، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1990
3. إنسانية الإنسان بارتون رالف بري، ت. سلمى الخضراء الجيوسي، المعارف، بيروت، الطبعة الأولى، 1961