الجمعة، 29 يوليو 2016

لماذا آمن الناس بالسحر؟

نخطئ إذا ظننا أن الإيمان بالسحر قد نبت في ذهن الإنسان نتيجة للصدفة أو الارتجال، ففي عالم الشعوب البدائية لا وجود للصدفة. ويكفي أن هذه الظواهر سايرته آلافا من السنين وما تزال تعيش معه، وما نزال نلاحظ هذا حتى في حياتنا المعاصرة، وإن دل على شيء فإنما يدل على أنها استمدت أصولها من إملاء قلوب السلف استجابة لحاجتهم الاضطرارية إلى المعرفة، أو تخيل المعرفة، ليتغلبوا على القلق الأزلي الذي كان ينتابهم في خضم الكون ومخاطره. وقد اختلفت طبيعة تلك الاستجابة باختلاف صور العالم التي صورتها لهم معارفهم وأوهامهم في مختلف البيئات والعصور.

ولعل الإنسان أول ما وعى لم يميز بين نفسه ومحيطه، فخيل إليه أنه مجرد عضو من جسم عالمي فيه كل محتويات الكون، وهو كالجسم الآدمي متضامن الأعضاء يعين بعضها بعضا، حتى إنه يمكن، بحكم تضامنه الكامل مع العالم، تحريكه وفق إرادته إذا ما عرف سر تلك الروابط. تلك الفكرة وهي أن الإنسان يملك سلطانا على القوى الخارجية يعرف كيف يديرها على نحو ما هي أساس السحر. 

ولقد كانت مرحلته التالية في تطور تفكيره وفي محاولته تفسير مظاهر الكون، أن عزا إلى الكائنات روحا خاصة وأسند إليها إرادة ذاتية وتصور أنها دائمة التدخل في حياته اليومية، ثم ألّهها كلها كما ألّه كل ما كان يجهله ويخشاه، وهذا ما يسمى الروحانية (animism).

ويحصر بول غليونجي مقومات السحر في ثلاثة أمور:

أولا: الاعتقاد بوجود قوة خفية (لا شخصية ولا مادية) تنظم العالم، وأن الساحر يمكن أن يأسرها في جسمه، ثم يحلها بدوره في جسم غيره، وأن يسخرها بصفة عامة عن طريق وسائل معينة. 

ثانيا: المنطق الكاذب الذي يستقرئ القياس السطحي، المثل من المثل، والذي يرى روابط بين الشيء وشبيهه، وبين الشيء واسمه، كأن يعتقد أن أي عمل أتى بنتيجة في الماضي سوف يأتي بمثلها في المستقبل، وأن اسم الإنسان يحدد مصيره، وأن الدواء إذا شابه عضوا فإنه يشفي آلام هذا العضو، وأن خواص الأرقام والأشكال الهندسية تكسبها صفات ملائمة. ومن أمثلة ذلك التفكير الاعتقاد بأن صب الماء على الأرض يسقط المطر. وأن إلحاق الأذى بأي نموذج يسبب مثله في الأصل، وأن يوما من الأسبوع وقعت فيه كارثة يظل شؤما في المستقبل، .. الخ.

وما زال أكثرنا لا يتحدث عن مرض إلا مسبوقا بعبارة "بعيد عنك" أو "عدوك" أو "يكفينا شره"، بل ويتحاشى التلفظ بأسماء الأمراض القاتلة، ويكني عنها بكنى مختلفة، فمثلا يكني السرطان بـ"المرض الملعون" أو "المرض الخبيث". ولا يقدم على عمل ما إلا وقد تضرع قبله بالدعوات. وهذا لا يعني أن الابتهال إلى الله ضرب من ضروب السحر، ولكن الباعث النفسي الذي يملي هذا التضرع إلى الانسان هو الشعور القهري نفسه الذي كان يوعز بتلاوة التعاويذ في العصور النائية، إذ أن الإيمان بالأصنام وبالأرواح كان في ذلك الوقت في مثل إيماننا اليوم بالله ورسله، فضلا عن أن حاجة الإنسان إلى سند علوي هي من الظواهر الباقية. 

ثالثا: عدم إدراك الإنسان لفكرة الموت ردحا طويلا من الزمن لدى كثير من الناس، وعدم تمييزه بين الموت والحياة، وتخيله أن الموت نوم طويل يعيش الميت في أثنائه عيشة الأحياء. وأنه يستقبل منهم السلام عليه ويرد عليهم. وأنه يستيقظ أحيانا فيزور الأحياء طيفا في أثناء نومهم، وشبحا أو رؤيا في أثناء اليقظة، ويطالبهم بحقوقه أو أملاكه أو بالصدقة عنه. ومن هنا نشأ الإيمان بالأحلام وبالأشباح، وتقديم الأطعمة والملابس للمتوفين. وعمليات السحر لإعادة الحياة إلى ما كان يحيط بهم في كهوفهم، لتهيئة أسباب الراحة والترف لهم، بغية استرضائهم والحيد بهم عن فكرة العودة. بل يذهب بعضهم إلى القول بأن ركام القبور الذي تحول فيما بعد إلى "الشاهد" كان الغرض من وضعه على القبور في أول الأمر زيادة الثقل على الميت للحيلولة بينه وبين مغادرة قبره.

كانت هذه بعض المقومات النفسية التي جعلت الناس تؤمن بالسحر في الماضي، فلماذا لا يزال الناس يؤمنون به؟! 

لا شك أن أصحاب العقول المستنيرة ينكرون السحر بالكيفية التي يعتقدها عامة الناس، بل ويعدونه من الخرافات التي اخترعها ضعاف العقول العاجزون عن الكسب المشروع. إلا أن كثيرا من الناس في المجتمعات المختلفة لا يزالون يعتقدون في الأعمال السحرية، في حقيقتها أولا ثم في حقيقة تأثيرها في إحداث الأثر الذي تُعمل لأجله. وهنا يجب أن أقول أنه من الواضح أن مستوى الأفراد التحصيلي أكاديميا لا يؤثر على صاحبه بقدر تأثير العقل المجموعي لأفراد المجتمع الذي يعيش فيه، فكم من أولئك الذين يعتقدون في السحر يحملون شهادات جامعية؟! وكم منهم من زمرة المثقفين المؤثرين في مجتمعاتهم؟

إن ما يجب الإيمان به هو أن السحر مجرد وَهْم، يحدث أثره بواسطة الإيحاء، وذلك عندما ينجح الساحر في التأثير على المجال البصري لأصحاب العقول الضعيفة والنفوس الهشة، ممن لديهم الاستعداد للتصديق به. وكما هو معلوم فإن الرغبة أحد أهم أسباب الوهم، بالإضافة إلى الخوف. وهذا يعطينا فكرة عن الدور الذي يقوم به الساحر حيث يزرع الرهبة في قلوب المشاهدين له، ويسيطر عليهم بالإيحاء وبالترهيب، وبواسطتهما أيضا يستطيع الساحر التأثير على مشاعرهم.

وأما عندما نصف حدثا ما بأنه سحر، فهذا يعني أن العقل (منطقيا) لم يستطع أن يفهم كيف حدث! تماما كما في ألعاب الخفة والخدع البصرية. الجدير بالذكر أن هناك أبحاثا علمية أجريت على مشاهدي الخدع البصرية (أي الحيل السحرية) لمعرفة أي جزء من الدماغ يكون نشطا خلال الاستجابة الادراكية للخدع البصرية، ومنها ما توصل إلى حدوث زيادة في نشاط القشرة الحزامية الأمامية عند الأشخاص الذين شاهدوا الخدع البصرية مقارنة بأولئك الذين شاهدوا مشاهد معقولة منطقيا. 

وفي الختام نذكر قصة حدثت لرجل يدعى "كينج" من أقزام البامبوطي الذين يعيشون في الكونجو، هؤلاء الأقزام يعيشون في غابات كثيفة إلى حد لا يرى المرء معه ما هو أبعد من عدة أمتار في كل اتجاه. فقد قام كولن تورنبول وهو عالم انثروبولوجيا باصطحاب "كينج" في رحلة، يحكي تورنبول بعض تفاصيلها قائلا:

بينما كنا نعود إلى السيارة، نظر "كينج" عبر السهول إلى حيث كان قطيع من حوالي مئة جاموس يرعى على بعد أميال. فسألني أي نوع من الحشرات هذه، فقلت له إنها جواميس، وحجمها ضعف حجم جواميس الغابة المعروفة لديه. فضحك بصوت عال وقال لي لا تحكي مثل هذه القصص الغبية، وسألني مرة أخرى أي نوع من الحشرات هذه. ثم بدأ يتحدث إلى نفسه وظل على هذه الحال حتى اقتربت السيارة من القطيع، وقد شاهدهم يزدادون ويكبرون في الحجم، وعلى الرغم من أنه كان شجاعا، إلا أنه انتقل وجلس على مقربة مني، وتمتم قائلا: "إنه سحر". وآخر الأمر عندما أدرك "كينج" أنها جواميس حقيقية، ذهب الخوف عنه، ولكن الذي مازال يحيره هو السبب في أنها كانت صغيرة جدا، وعما إذا كانت صغيرة حقا ونمت فجأة لتصبح كبيرة، أو ما إذا كان نوعا من الخداع.

انتهت القصة ويبقى سؤالٌ مفاده: كم يا ترى عدد أولئك الذين يسكنون البيوت من أمثال "كينج"؟!!

*********

المراجع
1. بول غليونجي، طب وسحر، دار القلم ومكتبة النهضة للنشر، القاهرة، مصر

الثلاثاء، 26 يوليو 2016

التسمية .. من يمتلكها ؟!

"بداية الحكمة أن تدعو كل شيء باسمه"
حكمة صينية

إلى الآن ما زال التلاعب بالتسمية أو الأشياء ومسمياتها هو سيد الموقف في جهلنا بها وتخلفنا عن الركب العالمي المتقدم. ولعل أوضح ما في الأمر أنها لعبة غير واضحة المعالم ومتعددة المواضيع، كما أنها مختلفة النتائج والآثار على الأفراد والمجتمعات. يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: تسمية الشيء هي تملكه، وهذا ما يوضحه عبد الوهاب المسيري بقوله: إن مَن لا يسمي الأشياء يفقد السيطرة على الواقع والمقدرة على التعامل معه بكفاءة، ووصف المسيري حال الإنسان العربي المعاصر بقوله: إنه فقد القدرة على تسمية الأشياء.

وهذا يعني أن الإنسان العربي المعاصر فقدَ السيطرة على واقعه وفشل في التعامل معه، وهو ما ينطق به الواقع بكل وضوح صارخ ومؤلم. ولكي لا يقع الفكر الإنساني في أوهام معرفته للحقيقة، فقد دعا فرانسيس بيكون إلى التخلص من "الأوهام" التي تحدق بالفكر الإنساني إذا أراد بلوغ المعرفة الحقيقية، وهذي الأوهام هي: القبيلة، والكهف، والميدان العام (السوق) والمسرح. واعتبر بيكون أن أوهام الميدان العام أو السوق حيث يلتقي الناس ويتحادثون ويدعم بعضهم أوهام بعض، هي أكثر الأوهام ازعاجا لأنها تلحق الأفكار بالكلمات، والتي انسربت إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء، ذلك أن الناس يظنون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ. وذكر بيكون نوعين من الأوهام تفرضهما اللغة على الفهم؛ وهما: إما أسماء لأشياء لا وجود لها (مثال: نظرية المؤامرة*) وإما أسماء لأشياء موجودة ولكنها مختلطة وغير محددة (مثال: هيئة كبار العلماء في السعودية أو مصر) وغيرها من الأمثلة التي تحدق بالفكر العربي المعاصر.

ولكن كيف يكون للتسمية دور في تخلفنا عن الركب العالمي المتقدم؟ ومن الذي يمتلك التسمية؟ وهل التسمية سلطة أم سلاح في يد السلطة؟ وإن كانت كذلك، فكيف تكون التسمية سلاحا في يد السلطة؟

بما أن المثال يكشف ألغاز المقال فسأذكر مثالين شائعين عن التلاعب بالتسمية. أولهما ما قاله المفسرون عندما فسروا الآية التي تضمنت: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، حيث زعموا أن المقصود بالعلماء هنا شيوخ الدين بينما إذا استعرضنا الآية بدون اجتزاء فسنجد أنها تتحدث عن علماء الأحياء، والأنثروبولوجيا، والجيولوجيا، والمياه، والنبات والحيوان وغيرهم. ولعل غياب العلماء المتخصصين في العلوم الطبيعية والإنسانية (فيزياء وكيمياء وأحياء، علم الاجتماع، ...الخ)، ساهم في استبدال مسمى "علماء الدين" بـ"شيوخ الدين". إن أكثر الناس، وبطريقة غير واعية، وتحت تأثير الاعتياد ومسايرة الأغلبية وسلطة الاسم "علماء" وغيرها من الأسباب، أقول إن هذه الأكثرية لا تتردد في عمل مقارنة بين قول شيخ الدين الذي ينقل من كتب الأولين وبين ما توصل إليه علماء الفيزياء الكونية! ولعل ذلك يتضح في مسائل علمية مثل: كروية الأرض ودورانها حول محورها وحول الشمس.

ومثال آخر وليكن الحديث (إن صح) القائل: "العلماء ورثة الأنبياء"، فإن النبي عليه السلام أخبرنا عن طريق الوحي بغيبيات مثل خلق الكون وبداية الجنس البشري وقصص الأولين، وهذا ما يكشفه لنا علماء الآثار والأحياء والطب والفيزياء الكونية وبقية المنتمين لزمرة العلماء. وليس لشيوخ الدين (الوعاظ) في هذه الاكتشافات من شيء إلا الإسراع في تكذيبها والسخرية منها، ولكن ما أن يجدوا أثرا في كتب التراث يوافق ما توصل إليه العلماء (ورثة الأنبياء) في مختبراتهم أو ميادين بحثهم، سارع أولئك الشيوخ إلى زعم أن اكتشاف هذا العالم أو تلك هو من الاعجاز العلمي في السنة النبوية!

وما هذا إلا مهزلة تكشف لنا العقم الفكري الذي نعيشه، فهل هناك تخلف وإعاقة فكرية أكبر مما نعيشه اليوم؟

ومن ناحية أخرى فإن اطلاق مسمى "علماء" قد يوهمنا كأفراد ومجتمعات بأننا نمتلك في الواقع علماء "Scientists" وذلك من خلال تشكل صورة خيالية للفظ "علماء" في الذهن دون الوقوف على دلالة اللفظ في الواقع، بل واستبدالها بالدلالة الخيالية وهذا ما يسمى بالخيال أو المخيال الاجتماعي. وعندما نسمي أحدهم "عالما" فنحن لم نعطه التسمية فقط، بل شكلا من الوجود الاجتماعي أيضا.

إن التسمية ليست فعلا بريئا إنما فعل سلطوي، فالسلطة تستخدم التسمية لتعزيز الأيديولوجية التي تتبناها، ولخدمة نفوذها واستدامته وذلك من خلال تغذية المخيال الاجتماعي. يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو: لا تحكم لغة السلطة وتأمر إلا بمساعدة من تحكمهم، أي بفضل مساهمة الآليات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك التواطؤ الذي يقوم على الجهالة، والذي هو مصدر كل سلطة.

ويؤكد رولان بارط بأن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. وأن هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة ومنذ الأزل هو اللغة أو بتعبير أدق اللسان. ويضيف بارط بقوله: إن اللغة ما إن ينطق بها، حتى وإن ظلت مجرد همهمة، فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها. إذ لا بد وأن ترتسم فيها خانتان: نفوذ القول الجازم، وتبعية التكرار والاجترار. في اللغة إذن خضوع وسلطة يمتزجان بلا هوادة.

خلاصة القول أن الأسماء التي نلصقها بمسميات ما، ومن خلال صورة ذهنية غير واعية، تعمل على تضليلنا واستعبادنا واستبعادنا من خلال سلطة اللغة والتي تستمد سلطتها من وجودها الاجتماعي. إن اللغة سلطة رمزية تمارس نفسها على هيئة القدرة التي تجعلنا نرى أو نفهم أو نعرف أو نؤمن، ذلك أن السلطة الرمزية هي سلطة تعسفية في الأصل، ولكن الناس يعترفون بشرعيتها لأنهم يجهلون أنها تعسفية. إن هذه السلطة الرمزية تتحد بفضل علاقة معينة تربط من يمارس السلطة بمن يخضع لها. وكما أن اللغة تؤدي إلى الهيمنة والسيطرة، فهي كذلك أداة عنف رمزي تؤثر نفسيا على الجماهير وتجعلهم يخضعون لقرارات فئة معينة تميل إلى احتكار امتيازاتها.

*******

* لا نؤمن بنظرية مؤامرة أزلية، ولكن هذا لا ينفي وجود مؤامرة معينة على سبيل المثال للإطاحة بنظام الحكم في دولة عربية ما.
- نظرية المؤامرة بحسب ويكيبيديا تعني: محاولة لشرح السبب النهائي لحدث أو سلسلة من الأحداث (السياسية والاجتماعية أو أحداث تاريخية) على أنها أسرار، وغالباً ما يُحال الأمر إلى عصبة متآمرة بشكل منظم هي التي تقف وراء الأحداث، وكثير من منظمي نظريات المؤامرة يدعون أن الأحداث الكبرى في التاريخ قد هيمن عليها المتآمرون وأداروا الأحداث السياسية من وراء الكواليس.

المراجع
1. بيير بورديو، الرمز والسلطة، ت. عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2007م.
2. رولان بارط، درس السيميولوجيا، ت. ع. بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 1993م.
3. فرانسيس بيكون، الأورجانون الجديد، إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة، ت. عادل مصطفى، دار رؤية، القاهرة، مصر، طبعة 2013