- لقد عمّ الصمت حتى صرنا
لا نُفصح الكلام، وكثُرَ الهراء حتى فقدنا معنى الكلام.
تميز الإنسان عن غيره بأنه الكائن الذي
يمتلك العقل واللغة. لقد ميز الكلام الإنسان عن باقي المخلوقات من كائنات حية
وجمادات. واستخدم الإنسان الكلام ليعبر عن حاجاته وعن عواطفه وأفكاره، وليبين فضله
وعلمه ومنزلته "تكلم حتى أراك". وفضيلة الكلام مكتسبة وذاتية تتجلى
بظهوره وبموافقته للحق، وانسجامه مع طبيعة الإنسان العاقلة والتي تميل إلى الكلام
والحوار. بينما يكتسب الصمت فضيلته كونه جزءا من الكلام، وكونه يخلو من رذائل
الكلام، أما الصمت بحد ذاته فهو سكون لا معنى له. "والكلام أفضل من الصمت لأن
نفع الصمت لا يكاد يعدو الصامت، ونفع الكلام يعم القائل والسامع، والغائب والشاهد،
والراهن والغابر". 1
ولكن كيف بات الصمت فضيلة؟ ولمَ كل هذا
التبجيل للصمت؟ ومتى يكون الصمت لعنة؟ وكيف يحافظ الصمت على استمراريته؟
لا شك أن فضيلة الصمت تبزغ عند حضور رذائل
الكلام من كذب وغيبة ونميمة وفحش ووشاية وفضح مستور واعتداء وتجاوز على الآخر، كما
يصبح الصمت الصديق الذي لا يخون عندما يكون الإقبال على استهلاك الكلام السطحي
وغير الهادف إلا لتمضية الوقت في المجالس والاستراحات والديوانيات والمقاهي وغيرها
من الأماكن التي تساعد على تداول الأخبار وكثير من الكذب والإشاعات حسب ما يجدف به
التيار الجمعي الذي يخلق لصاحبه واقعا مفهوميا يغذي أحلامه وأمنياته. وأصبحت الثرثرة
والديماغوجية الاجتماعية اليوم ظاهرة عامة تغزو وجود معظم الناس، وهكذا يتحول
الإنسان تدريجيا إلى كائن آلي يتلقى سلبيا فعل القوانين الاجتماعية التي هي خارجية
عنه.
وبما أن الإنسان كائن اجتماعي، واللغة
مكوّن اجتماعي، فإن الصمت في قضايا المجتمع في حالات الظلم والقهر والاستغلال
التعسفي والتسلط على أفراد المجتمع يكون لعنة، ويكون "الساكت عن الحق شيطان
أخرس"، فما بالنا نتبنى خيار الصمت؟! .. وهل لنا خيار آخر يمكن أن نتبناه لمواجهة
الظلم والقهر والاستغلال؟
إن كل قضية يواجهها الإنسان لابد أن يتخذ
بإزائها موقفا سواء كان إيجابيا أو سلبيا، وكل موقف اتخذه إما أن يكون ذا فعالية
أو لافاعلية له. والجماعة التي لا تعبر عن موقفها هي في الحقيقة تتخذ موقفا دراميا
يعرف بـ "نظرية الصمت"، والتي في حقيقتها ضرب من الموت في مواجهة
التحديات. 2
إن اتخاذ موقف الصمت لا يصب في مصلحة
المجتمع، بل إنه يغذي ويدعم سيطرة الظالم المستبد ويساهم في ديمومة النظام الاجتماعي
الذي يؤمن مصلحته. إن ثقافة الصمت تخلق وعيا سلبيا لدى المقهورين تجعلهم يبلورون صورة
سلبية عن ذواتهم، تسلبهم الثقة في أنفسهم، وتشعرهم بأنهم في حاجة دائمة إلى قاهريهم.
والخوف من بطش
المستبدين وظلمهم هو الذي يجعل المقهور يميل إلى الصمت، وهو ما يؤدي إلى استدامة
القهر الذي يعيشه. إن القهر يؤدي إلى الصمت والذي بدوره قد يؤدي إلى العنف والقتل، وهذا ما أشار إليه نزار
قباني بقوله: 3
بلقيسُ ..
يا عطرا بذاكرتي
ويا قبرا يسافر بالغمام
ويا قبرا يسافر بالغمام
قتلوكِ في بيروت مثل أي غزالة
من بعدما قتلوا الكلام
ولأجل أن يتغلب الإنسان على ظروف القهر فإن
عليه أن يتعرف على أسبابه، حتى يتمكن من تطوير موقف جديد يحقق فيه إنسانيته
الكاملة. والخوف
من الحرية هو الذي يجعل المقهورين راغبين في انتحال أدوار القاهرين وهو الذي يجعلهم
قانعين بدور المقهورين. 4
إن النضال من أجل الحرية هو الأمل الذي به
تنفك عقدة الخوف وأهم أركان هذا النضال هو محاربة الجهل، والوعي بالواقع والحوار
بين أفراد المجتمع، وكما يقول هيجل: إنه فقط وبالمخاطرة بالنفس تتحقق الحرية
للإنسان.
وفي الختام نسأل كما سأل مظفر النواب: هل نسي الشارع العربي الكلام؟ 5
******
الإشارات
الإشارات
1.
رسائل الجاحظ
2.
باولو فريري، تعليم المقهورين
3.
نزار قباني - قصيدة بلقيس
4. باولو فريري،
تعليم المقهورين
5.
مظفر النواب - قصيدة الثقب
******
المراجع
******
المراجع
- باولو فريري، تعليم
المقهورين، ترجمة: د. يوسف نور
عوض، دار القلم، بيروت، لبنان 1980
- فلسفة الصمت الإجتماعي للدكتور عدنان إبراهيم
- فلسفة الصمت الإجتماعي للدكتور عدنان إبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق