الأحد، 14 فبراير 2016

وقت الفراغ

 ما هو وقت الفراغ؟ وما هي نتائجه على الأفراد والمجتمع؟ وكيف يكون تنظيم وقت الفراغ عونا للمجتمع وأفراده في تحسين أحوالهم؟

وقت الفراغ لا يعني ضياع الوقت أو وقت الراحة، إنما يعني ذلك الوقت الذي يتمتع فيه الفرد بكامل حريته من قيود العمل. والعناية بأوقات الفراغ لدى أفراد المجتمع تستوجب ملأه بما يفيدهم ضمن نظامهم الاجتماعي وبما يسليهم من وسائل التسلية والترفيه، وكما قال الأديب الألماني غوته: لا أصعب على الإنسان من استعمال أوقات فراغه.

وقد بيّن المفكر المغربي علال الفاسي في كتابه الرائع (النقد الذاتي) مقدار الارتباط بين فكرة تنظيم وقت الفراغ وبين مختلف وجوه النشاط الاجتماعي الذي تتجه في الأمة؛ فالحياة لا يمكن أن تكون مفرحة إلا إذا كان نشاط الإنسان فيها ضمن إطار يحقق رغبة الحياة الطيبة التي ينشدها، وبذلك تصبح المسألة ليست مجرد معاونة للفرد على شغل أوقات فراغه، ولكنها زيادة على ذلك مسألة تنسيق وتوازن بين القوات المادية والمعنوية التي لا يخضع لها الإنسان في حياته اليومية. 

وأوقات الفراغ مرتبطة بازدهار الحياة الاقتصادية وبالمدنية، وهذا ما يؤكده الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز بقوله: إن وقت الفراغ هو أم الفلسفة، والدول هي أم السلام ووقت الفراغ. وحيث قامت وازدهرت مدن عظيمة أولا، كانت هناك أول دراسة للفلسفة. لذلك فإن النسّاك الأوائل في الهند، والمجوس في فارس وكهنة الكلدانيين والمصريين يعتبرون أقدم الفلاسفة، وهذه البلدان كانت أقدم المماليك. ولم تكن الفلسفة في حينها قد نهضت عند الإغريق وغيرهم من شعوب الغرب، الذين لم ترَ دولهم السلام قط، ولم يكن لديها وقت فراغ إلا ليراقب أحدها الآخر. وبعد أن حقق الإغريق انتصارهم على الفرس، وسيطروا على البحر، نمت ثرواتهم، وكانوا يمضون وقت فراغهم في التعليم أو المناظرة حول آرائهم. وكان المكان الذي يعلم ويحاور فيه أي منهم يسمىSchola  (المدرسة) وهي كلمة كانت تعني في لغتهم وقت الفراغ، وكانت مناظرتهم تسمى diatriba، أي تمضية الوقت. 

إذن أوقات الفراغ هي نتيجة للمدنية والازدهار الذي تعيشه المجتمعات والحضارات، وما نتج عن تلك الأوقات كان التعليم والحوار والفلسفة.

أما أستاذ علم الاجتماع الفرنسي جابريل تارد فيرى أن وقت الفراغ لازم للإبداع، وكلما زاد تفرغ الصفوة لأفكارهم كلما أنتجوا المزيد من الابتكارات، وكذلك كلما زاد جمهور المنتجين والمستهلكين والمديرين كلما زاد التفاعل الاجتماعي ونحا المجتمع نحو الانسجام، وتحقق للأفراد التوازن النفسي المنشود.

لكن ما الذي أنتجه وقت ىالفراغ في مجتمعاتنا العربية اليوم؟

إن كل ما يفعله وقت الفراغ في مجتمعاتنا العربية اليوم هو المزيد من الفقر الروحي والكسل العقلي والسمنة. أما الفقر الروحي فنتج عنه الاهتمام بالشكليات والمظاهر والطقوس، لقد ألبسنا قناع الفضيلة وصرف عنا الحقوق والأخلاق. وأما الكسل العقلي فأصابنا بالتقوقع والانغلاق وحلّ بالفكر الخواء والسذاجة والدوغمائية، فنشأنا على يقين مطلق وعزفنا عن الحوار والانفتاح على الآخر. وأما السمنة فأصابتنا بالخمول والاعياء فعزفنا عن البحث والاطلاع والمشاركة فداهمنا الجهل والتخلف والعزلة. وكما قال الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون إن الجسد الذي أفرط في البدانة قد بقيت فيه الروح على حالها فغدت من الضآلة بحيث لا تستطيع أن تملأه وأصبحت من الضعف بحيث لا تملك أن توجهه.

إن تنظيم أوقات الفراغ والاهتمام والعناية بأفراد المجتمع بما يفيدهم ويسليهم لهو عونٌ لهم على الاستمتاع وشغل أوقات فراغهم في ما يعود عليهم وعلى المجتمع بتحقيق الحياة الطبية المنتجة.

يضرب لنا الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل مثالا على ما كان يفعله الإنسان المتحضر في الزمن الماضي، أي الإنسان الأرستقراطي في القرن الثامن عشر، الذي كان نموذجًا حقيقيًا للإنسان المتحضر حسب رأيه، والذي كان يملك وقتًا كبيرًا من الفراغ، ولكنه كان يعرف تماما ماذا يفعل بوقت فراغه، حتى أن كثيرًا منهم حقق أفضل الأشياء مما لا نكاد نجد له مثيلًا الآن، فما أكثر الذين أتوا أفعالًا عظيمة، كتشجيع الفن، وإقامة الحدائق الجميلة، وتشييد المنازل الباهرة، إلى آخر هذه الأشياء التي تنال منا الإعجاب، ويضيف: إني لأرى بعين خيالي، عندما ينتابني الشعور بالبهجة، عالمًا يمكن أن يتحقق فيه لكل إنسان مثل هذه الاستخدامات الجيدة لأوقات الفراغ، ذلك لأن كل إنسان سوف يكون قد بلغ مستوى كافيًا من الحضارة.

استثمروا أوقات فراغكم في ما يعود عليكم بالمنفعة، مارسوا هواياتكم، تسلحوا بالعلم والمعرفة التي توسع مدارككم وتمكنكم من العيش باستقرار ذاتي يتقبل ويُقبِل على الحياة التي يتمناها الواحد منا لنفسه وللآخر على هذا الكوكب، انخرطوا في الأنشطة الاجتماعية، والتي يجب على الدول أن تؤسس لها المنشآت وتقوم بتمويلها وتوجيهها مع نوع من الرقابة العامة التي يرتضيها أفراد المجتمع.

وجدير بالذكر أن العالم اعترف بأحقية الأفراد في التمتع بأوقات فراغهم، حيث تنص المادة 24 من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان بأن لكل شخص الحق في الراحة، وفي أوقات الفراغ، وخاصة في تحديد معقول لساعات العمل وفي عطلات دورية بأجر.

وفي الختام أذكركم بنصيحة المغرد مازن حمزي: صلوا بالعمل النافع للإنسان وللحيوان وللكوكب، صوموا عن النفاق والرياء والنزوات وكل قبيح، وسيروا في الأرض وارقصوا في أوقات الفراغ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق