السبت، 14 نوفمبر 2015

قيمة الفلسفة .. برتراند رسل

يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رسل Bertrand Russellلقد حُددت الفلسفة بأنها محاولة عنيدة خارقة للتفكير بوضوح، وإنني لأفضل بأن أحددها بأنها محاولة ذكية بصورة خارقة للتفكير بخطأ. 

تهتم الفلسفة بهدفين:
الأول: كانت تهدف إلى فهم نظري إلى ركيب العالم 
والثاني: جربت أن تكتشف أفضل طريقة للحياة

أما مزاج الفيلسوف فهو نادر الوجود، لأنه يجب أن يضمن صفتين متضاربتين إلى حد ما: من جهة رغبة قوية للإعتقاد برأي شامل عن الكون أو الحياة الإنسانية، ومن جهة أخرى، العجز عن الإعتقاد بصورة مقنعة إلا فيما يظهر بأنه من الأسس الفكرية. وكلما كان الفيلسوف عميقاً، لا بد أن تصبح أكاذيبه أكثر تعقيداً ومهارة وذلك لكي تحدث فيه حالة القبول الفكري المرغوب فيه .. ولهذا السبب كانت الفلسفة غامضة.

التأمل الفلسفي فيما لا نزال لا نعرف قد بين بأنه ذا قيمة أولية للمعرفة العلمية المضبوطة. فظنون الفيثاغورسيين في الفلك، وأناكسيمندر في التطور البيلوجي، وديموقريطس في تركيب المادة الذري، زود رجال العلم فيما بعد من الأزمنة بفرضيات، كانت لولا الفلسفة متعذرة الوصول إلى أفهامهم. 

ويمكننا القول بأن الفلسفة من الناحية النظرية على الأقل، جزئياً، تنطوي على وضع أطر للفرضيات الشاملة الكبرى الذي لم يستطع العلم حتى الآن تجربتها وقياسها، ولكن حتى يصبح في الإمكان تجربة هذه الفرضيات، تصبح عندما يتم تحقيقها، جزءاً من العلم ولا تعود محسوبة "كفلسفة".

إن مهمة الفلسفة ليست في تحصيل مجموع من الحقائق، مثل سائر العلوم، بل في البحث فيما لم يتيسر الحصول على جواب عنه من مسائل. ذلك أن ما يتكون عنه مجموع من الحقائق في موضوع ما، سرعان ما يستقل عن الفلسفة ويصبح علماً قائماً برأسه : فدراسة الكواكب، مما يدخل الآن في علم الفلك، كانت كلها داخلة في الفلسفة، وكتاب نيوتن العظيم عنوانه: المبادئ الرياضية في الفلسفة الطبيعية". ودراسة النفس كانت جزءاً من الفلسفة، ثم استقلت وكونت ما يسمى بعلم النفس. "فالمسائل الممكن تحصيل أجوبة نهائية عنها توضع في العلوم، بينما تلك التي لم تحصل على جواب نهائي عنها حتى الآن تبقى لتكون البقية التي تسمى الفلسفة". 

إذن العلم هو ما نعرف، والفلسفة هي ما لا نعرف. 

ثم هناك مسائل ستبقى -مهما تفاءلنا- غير قابلة للحل من جانب العقل الإنساني، اللهم إذا صارت قواه من نوع آخر مختلف تماماً عما هي عليه اليوم. فمن ذلك المسائل التالية:
-- هل الكون وحدة في التصميم أو الغاية، أو هو مجرد تلاقٍ عارض لمجموعة من الذرات؟
-- هل الوعي جزء ثابت من الكون، يؤمل في نمو مطرد للحكمة، أو هو عارض على كوكب صغير مصيره المحتوم أن تصبح الحياة عليه مستحيلة؟
-- هل الخير والشر ذو أهمية بالنسبة للكون، أو أن أهميتها هي فقط بالنسبة للإنسان؟

وقيمة الفلسفة ينبغي أن تُنشد -على النحو الأوسع- في عدم يقين إجاباتها. إن الإنسان الذي لم يشدُ حظاً من الفلسفة يسير في الحياة سجينَ الأحكام المألوفة السابقة المستمدة من الإدراك العام، ومن العادات والعقائد المألوفة في عصره أو مصره، ومن معتقدات نمت في ذهنه دون تعاون ولا موافقة صريحة من عقله المفكر. والعالم يبدو لمثل هذا الإنسان كأنه نهائي واضح، محدد المعالم، والأمور المألوفة لا تثير عنده تساؤلات، وهو ينبذ باحتقار الممكنات غير المألوفة. لكن حين يبدأ في التفلسف، يجد أن أمور الحياة اليومية نفسها تفضي إلى مشاكل لا يمكن أن يقدم عنها غير حلول ناقصة كل النقص. والفلسفة وإن كانت غير قادرة على أن تخبرنا بيقين عن الجواب الصحيح للشكوك التي تثيرها فإنها قادرة على اقتراح إمكانات عديدة توسع من آفاق فكرنا وتحرر أفكارنا من سلطان العادة الطاغي. 

وهكذا فإن الفلسفة بينما تقلل من شعورنا باليقين فيما يتعلق بحقيقة الأشياء، فإنها تزيد كثيراً من معرفتنا بما عسى الأشياء أن تكون، وتزيل التزمّت المتعالي الموجود عند أولئك الذين لم يسافروا في منطقة الشك المتحرِّر، وتنعش إحساسنا بالعجب والدهشة وذلك بإظهارها الأمور المألوفة بمظهر غير مألوف. 

وإلى جانب فائدة الفلسفة في الكشف عن إمكانيات غير معروفة- فإن لها قيمة - وربما كانت هذه هي قيمتها الرئيسية، مستمدة من عظمة الموضوعات التي تتأمل فيها، ومن الحرية من الأغراض الضيقة والشخصية عن هذا التأمل. 

إن حياة الرجل المقود بالغرائز هي حياة حبيسة داخل دائرة من الاهتمامات الشخصية، وقد تشمل الأسرة والأصدقاء، لكن العالم الخارجي لا يلتفت إليه إلا من حيث أنه يمكن أن يساعد أو يعيق ما يدخل في نطاق الرغبات الغريزية. 

وفي مثل هذه الحياة شيء محموم ومحدود، لو قورن بما عليه الحياة الفلسفية من هدوء وحرية. والعالم الشخصي المؤلف من الاهتمامات الغريزية عالم صغير، موضوع في وسط عالم كبير قوي لا بد له، عاجلا أو آجلا، أن يدمر عالمنا الشخصي الخاص. وإذا لم نوسع اهتماماتنا بحيث تنظم العالم الخارجي كله، فسنبقى مثل حامية مُحاصرة في قلعة، تعلم أن العدو يمنعها الفرار وأنه لا مفر من التسليم. وفي مثل هذه الحياة لا سلام، بل كفاح مستمر بين إلحاح الرغبة وعجز الإرادة. ولا بد أن ننجو من هذا السجن ومن هذا الكفاح، إذا شئنا لحياتنا أن تكون عظيمة وحرة، على نحو أو آخر. 

وإحدى وسائل النجاة تكون التأمل الفلسفي. إن التأمل الفلسفي، في أوسع مجالاته، لا يقسم الكون إلى معسكرين متعاديين - أصدقاء وأعداء، مصادق ومعادي، طيب وشرير - بل ينظر إلى الكل دون تحيز. والتأمل الفلسفي، إذا لم يختلط بشيء آخر، لا يهدف إلى إثبات أن باقي العالم قريب النسب بالإنسان. وكل تحصيل للمعرفة توسيع لدائرة الذات، ولكن أفضل وسيلة لبلوغ هذا التوسيع أن يسعى إليه مباشرة. إنه يحصل عليه إذا كان الفاعل هو الرغبة في المعرفة وحدها، وذلك بالدراسة الني لا ترغب في أن تكون موضوعاتها - مقدماً- على هذا النحو أو ذاك، بل تكيف نفسها مع طبائع الأشياء كما تجدها في الواقع. 

ولهذا فإن عظمة النفس لا تتحقق بتلك الفلسفات التي تشبه العالم بالإنسان. إذ المعرفة شكل من الاتحاد بين الذات واللاذات، وهي تفسد، مثل كل اتحاد، بالسيطرة ، وبالتالي بأية محاولة لإرغام الكون على أن يكون في وفاق وتطابق مع ما نجده في أنفسنا. وثم ميل فلسفي واسع الانتشار إلى الرأي الذي يقول إن الإنسان مقياس كل الأشياء، وأن الحق من صنع الإنسان، وأن الزمان والمكان وعلم الكليات universals هي خصائص العقل، وإذا وجد شيء ليس من خلق العقل فلا يمكن أن يعرف ولا أهمية له بالنسبة إلينا. وهذا الرأي باطل .. وإلى جانب كونه باطلاً فإنه يؤدي إلى تجريد التأمل الفلسفي من كل ما يعطيه قيمة، لأنه يقيد التأمل بالذات. وما يسميه معرفة ليس إتحاداً مع اللاذات، بل مجموعة من الأحكام السابقة، والعادات والرغبات، منا يضع حائلاً بيننا وبين العالم خارجنا .. والتأمل الفلسفي الحق، على عكس مما ذلك، يجد رضاه في كل توسيع لدائرة اللاذات، في كل شيء يرفع من شأن موضوعات التأمل، وبالتالي من الذات المتأملة. 

فكل شيء في التأمل يكون شخصاً أو خاصاً، وكل ما يتوقف على العادة، والمنفعة الشخصية أو الرغبة، يشوه الموضوع، وبالتالي يفسد الاتجاه الذي ينشده العقل. 

وخلاصة مناقشتنا لقيمة الفلسفة هي أن الفلسفة يجب أن تُدْرَس، لا من أجل الحصول على إجابات نهائية للمسائل التي تهتم بها، إذ لا تعرف -في الغالب- جوابات نهائية صحيحة لها، ولكن تدرس من أجل هذه المسائل نفسها، لأن هذه المسائل توسع من أفق تصورنا لما هو ممكن، وتغني خيالنا العقلي، وتقلل من التوكيد الدوغماتيقي الذي يغلق السبيل أمام العقل في التأمل، وقبل كل شيء، نحن ندرس الفلسفة لأنه من خلال عظمة الكون الذي تتأمله الفلسفة، يصير العقل هو نفسه عظيماً، ويصبح قادراً على بلوغ ذلك الاتحاد مع الكون، الذي هو أسمى خير يَنْشده. 

إن شيئاً من الفلسفة هي ضرورة للجميع ما عدا أولئك الذين خلوا من كل فكر، وفي غياب المعرفة تصبح هذه الفلسفة بصورة أكيدة فلسفة حمقاء. 


المراجع: 
١. مدخل جديد إلى الفلسفة - عبدالرحمن بدوي ١٩٧٥ 
٢. بحوث غير مألوفة - برتراند رسل - ترجمة سمير عبده - ٢٠٠٩

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق