صادفت الأديب الكبير نجيب سرور، أستاذ الأدب
والفن والمسرح .. الأديب الشاعر والمسرحي الكاتب والمخرج والممثل .. الفنان والناقد
والثائر والمتمرد. وقد عبرت له عن رغبتي في أن أعرف منه رأيه في موضوعات تخص الأدب
والفن، فبدأنا بالشعر .. أوليس في البدء كانت الكلمة ؟! .. وبين المستهل والختام
.. كلمات ضاق بها المقام .. وكما لا نحب إطالة الكلام .. حتى لو هدف إلى التمام ..
فإنه لا يصح أن نضع الكمام .. إذ الحديث جدّ هام .. ولا أن نصم الآذان .. حتى لا يصيبنا
الخرس ! .. بادرته - كما يحب - بلا شكليات:
أنا: ما الشعر ؟
سرور: الشعر .. إعلان عن تناقض يقوم عليه بناء
اجتماعي.
أنا: الشعر إعلان ! هل لك أن توضح أكثر ؟
سرور: الشعر تأكيد وتجسيد لتناقض صادرين عن
وعي يقظ للواقع .. وتعبير عن حاجة عامة لا عن حاجة فردية .. وتعبير عن حاجة إنسانية
بمعنى الكلمة الراقي لا عن حاجة فطرية .. فالشعر عملية ذهنية شاقة في بناء المضمون
والشكل على السواء .. وهو رؤى يكمن وراءها التلقي والتمثل والفهم والمعرفة للعالمين
الطبيعي والاجتماعي .. والشعر كما قال أبو تمام صوت العقل.
"العالم فوق الشعراء ..
فليعل الشعر إلى العالم
أو فلنصمت !!"
أنا: إذن الشعر صرخة تعبر عن حاجة إنسانية،
تصدر عن وعي بالواقع الاجتماعي، صرخة ملؤها الوعي، وعي الفرد بنفسه وبمجتمعه وبعصره
وبدوره التاريخي وبالعالم المحيط به، والشعر يعري الواقع وينأى عن "الأنا"
المنتفخة التافهة، فكيف تفسر إذن المديح والهجاء والفخر؟!
سرور: نعم .. إن أعذب الشعر أصدقه .. لذا يجب
أن يقف الشاعر إلى جانب الواقعية والعقلانية والصدق في الشعر .. أما من يكتب الآن في
أنماط الشعر الميتة المتعفنة كالمديح والهجاء والفخر .. فإنه ميت يضاف إلى الموميات
! إنها جميعا أشكال شعرية من نتاج مجتمعات معينة. فالمديح لا يعيش إلا في مجتمعات الملق
والرياء والتزلف والتمسح .. مجتمعات تحيا على المتناقضات: (الغنى والفقر، الألوهية
والعبودية، الجاه والهون، القوة والضعف، الخ) .. وفي هذه المجتمعات
يعيش الهجاء فهو لا يقوم على غير الحقد والحسد والضغينة – الافراز الطبيعي لمجتمع المتناقضات
– التي تعمل مثل هذه المجتمعات على تغذيتها في نفس كل فرد من أفرادها .. وفي نفس هذه
المجتمعات يعيش الفخر .. لينبع الفخر من مراحيض "الأنا" التي لا تعبد إلا
ذاتها ولا تتصل بالآخرين إلا من خلال التعالي والفوقية مرتسمة على ملامحها علامات التأنف
والاشمئزاز من الآخرين.
"لا يضير الشعر أن يصبح خبزا للجياع ،
لكن يضار الشعر أن أصبح فأرا في المجاعة !"
أنا: إذن، المجتمع المريض يفرز شعرا مريضا،
فما تقول في مَن يعقد الصلة بين المرض والفقر والألم من جهة والإبداع والعبقرية في
الجهة المقابلة ؟
سرور: (تنهيدة) لا يزال من المثقفين عندنا من
يؤكدون لزوم الفقر لإمكان وجود العبقرية ولزوم الألم لإمكان الإبداع .. ولم يخطر لهم
أن يسألوا أنفسهم في مقابل العبقري الذي ظهر وأفلت من الفقر .. كم من العباقرة قتلهم
الفقر ؟!! .. ثم هذا الربط بين الفن والجنون .. بين الفن والمرض هو النهاية المحتومة
لخط أيديولوجي معين. فمنتوجات المرض هي الفن المريض .. أما منتوجات الجنون فهي شيء
يجلب للناس الجنون ويعمل على إشاعته .. أما نحن فنقول إن الفنان هو أكثر الناس حساسية
وسلامة عقل وسواء نفس.
أنا: "الفن" .. "الشعر"
.. هذا يذكرنا بكتاب أرسطو "فن الشعر" .. ما الذي استوقفك في هذا الكتاب ؟!
سرور: إن أخطر ما في كتاب أرسطو هو المعنى الذي يقف وراء مصطلحي:
التطهير والمحاكاة .. ثم تأتي تلميحاته وألغامه وألغازه المنتشرة في صفحاته؛ مثل قوله:
إن قوة المأساة تظل من غير مشاهدين ومن غير ممثلين. وكذلك قوله: إن مهمة الشاعر الحقيقية
ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع.
أنا: "الشعر" و "الرواية"
.. هل هناك علاقة بين الشعر والتاريخ ؟!
سرور: ذكر أرسطو في كتابه السابق العلاقة بين
الشعر والتاريخ، إذ قال: "إن الشعر أوفر حظا من الفلسفة، وأسمى مقاما من التاريخ".
وهذا يعني أن مضمون العمل الشعري يحتوي على عناصر تاريخية، دون أن يصبح هو مجرد تاريخ.
أو لنقل إن الشاعر يقوم بدور المؤرخ، ولكن بطريقته ووسائله وأدواته الخاصة.
أنا: التاريخ والشعر، ماذا عن نسبة الشعر العربي
إلى إبليس من قبل أبي العلاء المعري (أو كما سميته أنت مرة أبي العلاء المصري!) ؟
سرور: إن نسبة الشعر العربي إلى إبليس وجنوده
تشكيك ما بعده تشكيك في التراث الشعري كله. ألم تسمع قول أبي العلاء المعري:
وكيف أرجي من زماني زيادة
وقد حذف الأصلي حذف الزوائد
وقوله:
تلوا باطلا وجلوا صارما
وقالوا صدقنا فقلنا نعم
ولك أن تقرأ حديث ابن القارح مع حمزة بن
عبد المطلب في رسالة الغفران .. بل يجب أن تقرأ رسالة الغفران، حتى تفهم أن الشك هو
الشيء الوحيد الذي لا شك فيه !
"غلب المَيْن مذ كان على الخلق وماتت بغيظها
الحكماء"
أنا: فما تظن بالأدب الشعبي: ألف ليلة وليلة
والزير وعنترة والملك القاهر والملك سيف بن ذي يزن وغيرها ؟
سرور: هذه أقاصيص مما يوسم خطأ بالشعبية
! لأنها ظهرت مع ظهور محترفي الأدب الذين انفصلوا عن الجماهير العاملة وارتبطوا بالطبقة
الحاكمة فعبروا من خلال هذه الأقاصيص عن الأفكار والمفاهيم التي يراد لها أن ترسخ في
أذهان المحكومين .. إذن في الأدب الشعبي نوعين من الأدب .. أولهما أدب السلطة وهو يعبر عن حياة السادة ويشبع نزوعهم إلى الترف والمتعة، ثم هو يبرر هذه الحياة ويحميها، وأديب السلطة يسميه الشعب بـ "الأدباتي" .. والنوع الثاني في الأدب الشعبي هو أدب المسودين الذي يعبر عن حياتهم ويتمرد على السادة وعلى التمايز والتصاعدية.
أنا: وماذا عن المثقفين العرب ؟
سرور: يجب على المثقف العربي أن يفرق بين ثقافة
الكلمات المتقاطعة والثقافة الحقيقية كنظرية ومنهج ورؤية على المستويين الوجداني والعقلي.
ويجب أن يكف المثقفون الجهلاء عن لعبة التبعية أو لعبة الخيانة أو لعبة الوصاية والولاية
أو لعبة السمسرة واستعرض العضلات الثقافية، وأن يقرأوا كثيرا، ولكن الأهم من ذلك أن
يفهموا كثيرا مما يقرأون كما قلت للمرة المليون !
أنا: إذن، ينقص مثقفونا القراءة والفهم وما
ينتج عن ذلك من وعي، والوعي كما تقول أيها النجيب بناء يحتاج لنظرية أو منهج يتبعه
السائر في طريق الثقافة، فهل هذا يكفي ؟
سرور: إن ثقافة الكاتب أصبحت اليوم تقاس بدرجة
وعيه بالارتباط العضوي بين الظاهرة ومجالها الإجتماعي لكي يمكن أن تكون الثقافة حالة
حيوية حركية متطورة لا سكونية جامدة تعتمد على آلاف المجلدات المرصوصة على الرفوف.
أنا: سؤال خارج الأدب والفن والمسرح ! هل ما
زلت تؤمن بنظرية المؤامرة ؟ وإن كنتَ كذلك؛ فعلى من تحاك هذه المؤامرة .. على الشعراء
.. أم على العرب .. أم عليك أنت ؟!
سرور: إن هذا السؤال في صلب الموضوع الذي نتحدث
فيه .. بل إن التماس إجابة هذا السؤال يترتب عليه فهم ما وصلنا إليه اليوم وما أريد
ويراد لنا وفي أي درب نسير. إن الحرب على الشعر والشعراء - صوت الشعوب - قديمة قدم
السلطة .. قدم الطبقية في المجتمع ! وهي قديمة على العرب تمتد إلى تنظيم أول محفل يهودي
صهيوني ماسوني في بابل وآشور حتى لقاءنا هذا. أما أنا فانظر إلى كتبي ! .. كم المطبوع
منها ؟ .. كم المنشور منها على الأرفف وفي الانترنت ؟ .. كم الذين يقرأونها ؟ .. ثم
كم من الذين يقرأونها ينشرونها ؟!
أنا: بما أنها مؤامرة فهي خفية إلا على ذوي
الأبصار، ولكن حتى الذين ينكرونها لا يملكون تفسيرا آخر لما حدث ويحدث للعالم العربي
! هل من شيء عالق في ذاكرتك ؟
سرور: أربع صور:
الأولى: لافتة
علقها أحد أصحاب المطاعم بالقاهرة كتب عليها: "يا ربّ .. كفاني عزا أن أكون لك
عبدا"
الثانية: يقول أبو العلاء المعري:
إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى
الرؤساء
الثالثة: يقول
بايرون: "الحرب مقدسة فقط إذا كانت من أجل الحرية، أما عندما تكون مجرد ثمرة للطموح؛
فمن ذا الذي لا يسميها جزارة ؟!"
الرابعة:
"والناس من هول الحياة ..
موتى على قيد الحياة !"
أنا: هل ما زلت يائسا من الواقع العربي ؟
سرور: أنا يائس إلا من رحمة الله .. و
"إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر !!
أنا: كلمة قبل أن ننتقل إلى الفنان المسرحي
نجيب سرور.
سرور: مهمة شاقة تلك مهمة الشاعر، مهمة أشق
مهمة الشاعر الضمير، ومهمة أكثر مشقة مهمة الشاعر الضمير للشعب، ومهمة تتجاوز حدود الاحتمال
تلك مهمة الشاعر الضمير للشعب وللعصر وللإنسانية .. وعلى الشعراء أن يكونوا - بتعبير
شكسبير - "خلاصة تاريخ العصر" لا أن يصيروا "نفاية تاريخ العصر" !!
***