ذهب السيد المريض
إلى عيادة الطبيب، يشكو له ما قد ألمّ به من ألم، وبعد الكشف عليه، أخبره الطبيب
أن ما يعاني منه هو المرض (ض)، ثم صرف له الدواء (م). لكن السيد المريض لم يخبر الطبيب أنه قد ذهب إلى
طبيب آخر قبله !! وكان الطبيب الأول قد ذكر له نفس التشخيص (ض) إلا أنه صرف له
الدواء (گ).
يبادر السيد
المريض، وكعادة أفراد المجتمع، إلى استشارة الأهل والأصدقاء وقبل ذلك يستشير أولئك
الذين يجلسون في مقاعد الانتظار (لصرف الدواء)، ويبدأون في الخلط والعجن في عراء
مكشوف معرض للأتربة وعوادم السيارات، فيخرج المريض من تلك الاستشارات بتوصيات
ملوثة غالبا ما تستهدف ذاكرته قصيرة الأمد فتُنسيه ما قاله الطبيب منذ لحظات.
ليس هناك أدنى شك
في أنه من حق المريض أن يأخذ رأيا طبيا ثالثا ورابعا وعاشرا، أقول رأيا
"طبيا" بمعنى أن يستشير طبيبا، لا أن يأخذ رأي زميله في العمل، ولا رأي
عطار وإن كان يبيع أعشابه بتصريح من وزارة التجارة ! لكن يبقى السؤال الذي حيّر
هذا المريض وغيره من المرضى: لماذا يختلف الأطباء في طرائق علاجهم؟ لماذا صرف طبيبنا
الدواء (م)، بينما صرف الطبيب الأول الدواء (گ) لنفس المريض ؟
إنّ ما يغيب عن
الكثيرين أنّ الطب (إنْ اُعتبر علما*) أقرب من العلوم الإنسانية منه
إلى العلوم الطبيعية ! وماذا يعني هذا ؟
إنّ العلوم
الطبيعية هي علوم بالغة الدقة تقترب دقتها من دقة الرياضيات، كالفيزياء والكيمياء
والأحياء، بينما العلوم الإنسانية هي علوم نسبية تختلف باختلاف الإنسان، كعلوم
الاجتماع والنفس والاقتصاد. وفي حالة السيد المريض كان الاختلاف في الطبيب. وحسبك أن تسأل
أحدهم: هل أنت وفلان نفس الشيء ؟
وجوابه سيكون
بالنفي.
وهنا نسأله:
فلماذا تتوقع أن تأخذ نفس الدواء الذي يأخذه فلان ؟
فإن أجاب بأنه
وفلانا يعانيان من نفس المرض. قلنا له: إننا نعالج المريض، وليس المرض! وهنا نتذكر قول أبي حامد
الغزالي، إذ قال: "لو عالج الطبيب جميع المرضى بنفس الدواء لمات معظمهم". وقد علّق
الفيلسوف المعاصر سيد حسين نصر على ذلك بقوله: "من الأمور المتناقضة أنه في الحضارة الحديثة التي
تنادي بالفردانية نجد في الطب تماثلا شديدا يفترض أن تأثر جميع الأجسام بالعقاقير
هو عينه أو يكاد، في حين أنه في الطب التقليدي الذي كان ينتمي إلى حضارة يخضع فيها
نظام الأفراد للنظام العام، كان كل فرد يعالج بطريقه خاصة، ويعد مزاجه خلطا من
الأخلاط لا يمكن أن يوجد أبدا بنفس التوازن في فرد آخر" .. وهنا يجب التأكيد
على أن لكل إنسان فرديته الخاصة به التي تميزه عن الآخرين بغض النظر عن اشتراكه مع
غيره في الإصابة بنفس المرض أو في أي شيء آخر.
وإنْ كان قد قيل
إن ما ينبغي معرفته هو السبب، فإن ما يجب أن يسعى المريض لمعرفته أولا هو تشخيص
حالته. فقد يوفق الطبيب إلى
تشخيص المرض، وقد لا يصل الطبيب إلى تشخيص حالة المريض إلا بعد إعطائه العلاج
ومتابعة حالته في قادم الزيارات ! وإن كان تطور وسائل الفحوصات المخبرية وتقنيات
التصوير الطبي قد ساهم في تطور الطب وتمكين الطاقم الطبي من الكشف عن الأمراض
وتشخيصها، إلا أن هناك حالات مرضية قد تستدعي من الطبيب علاج المريض ومتابعته
لمعرفة ما إذا كان الطبيب قد وفق في تشخيص حالة المريض، وهنا يستخدم الطبيب منهج
المحاولة والخطأ، ثم معرفة سبب الخطأ وبالتالي معرفة الصواب. كما أنه ليس من
مهام الطب معرفة "لماذا" حدث المرض (وإن نجح في حالات كثيرة)، ولكنه في
أحسن الأحوال قد يخبرنا "كيف" حدث المرض، لذلك يُرجع الأطباء أسباب حدوث
المرض لأسباب تخص المريض من حيث قابليته لأن يصاب بالمرض (أسباب جينية)، ولأسباب
بيئية (كتعرضه لعدوى معينة).
ولا شك أن الوعي الذي يملكه
المريض عن وضعه الصحي ليس وعيا عاريا أبدا، كما أن الطبيب لا يتجاهل التجربة
المعيشة للمريض وحضور آثار الثقافة والمجتمع والتاريخ، وتأثير كل ذلك في وعي
المريض.
لذا قد يتذمر المريض
من مستوى الخدمات الطبية المقدمة، خاصة إذا تعلق الأمر بتأخير علاجه أو عدم توفره
(وهنا لا يلام الأطباء، وإنما يقع اللوم على النظام الصحي !!)، أو يتذمر عندما
يتسبب العلاج بمضاعفات محتملة ومعروفة؛ وعند حدوث ذلك وبدلا من أن يتجه المريض إلى
طبيبه، يستعين بوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ! والتي بدلا من أن تساهم
في بناء الوعي الصحي السليم لدى الناس، تعمل على التأجيج ضد الخدمات الطبية
والأطباء، والمتاجرة بآلام المرضى واحتياجاتهم، مما يعني مزيدا من التضليل
الإعلامي. كما لا يخفى ما
يصدر عن المنابر الخطابية من إساءة للعاملين والعاملات في المجال الصحي بين الفينة
والأخرى. فهل ينتبه
الإعلام إلى دوره في بناء الوعي الصحي السليم؟ ثم هل يسعى الإعلام إلى لعب دوره في
تنوير المجتمع؟
وأما الأطباء فهم
أبعد من أن تهزهم آراء لا تحمل في جوهرها سوى خطابات عاطفية عديمة الفائدة والنظر، إذ
يتوجب عليهم أن يحملوا بمسؤولية واجبهم تجاه المرضى، وأن لا يكونوا ما يطلبه
الجمهور! لأنهم يعلمون جيدا أن الهدف المنشود من الطب هو المحافظة على حياة
الإنسان ليس فقط بزيادة عدد أيام عمره، بل كذلك بإعطاء أيامه حياة نوعية، وكما
يقول جورج كانغيلام: "إنْ كانت الإنسانية قد اتخذت لنفسها طبا، فلأنها ما
كانت لتستطيع العيش من دونه".
لكن ! وعَوْدا
على حالة السيد المريض، ما الذي يتحكم في اختيار الطبيب لدواء معين ؟ بمعنى،
ما هي الأسباب التي جعلت الطبيب الأول يختار الدواء (گ)، بينما الآخر الدواء (م) ؟ هناك عدة عوامل
تؤثر على اختيار الطبيب للدواء، نذكر منها على سبيل المثال:
1. عوامل
تخص المريض، وهي من أكثر العوامل التي تحدد اختيار الدواء، مثل حالته الصحية بشكل
عام (يعاني من أمراض أخرى، أو يستخدم أدوية وإن كانت دون وصفة طبية، طبيعة عمله،
مكان إقامته أي بعده أو قربه من الخدمات الطبية، استخدم أية أدوية من قبل لنفس
مرضه الحاضر، تفضيل المريض، .. الخ).
2. عوامل
تخص الطبيب وعادة تعتمد على تفضيل الطبيب لدواء معين لهذا المريض وآخر لذاك، وكذلك
خبرته مع الأدوية ومع المرضى، فكما يقال: الخبرة تعلم.
3. وهناك
عوامل تخص النظام الصحي بشكل عام، كعدم توفر الدواء على سبيل المثال.
ولو ضربنا مثالا
نوضح من خلاله كيف تؤثر هذه العوامل على اختيار الطبيب للدواء، فقلنا: إذا كان السيد المريض قد قدم للطبيب الأول معلومات معينة، ثم عند زيارة الطبيب الثاني قدم
معلومات إضافية عن وضعه الصحي، فإن هذا مما يساهم في اختلاف الطبيبين في اختيار
الدواء. لذلك، حتى وإن
اختلف الأطباء في طرائق علاجهم، إلا أنهم اتفقوا على العناية بالمريض وإعادة الصحة
له.
وأخيرا؛ يقول البروفسور الفرنسي ديديه
سيكار: "إن كان الطب هو طب
تسكين الآلام، فإن طب المستقبل هو طب الثقة".
*****
* يرى جورج كانغيلام أن الطب فنٌ في ملتقى طرق عدة علوم، أكثر من كونه علما مستقلا وقائما بذاته.
* يرى جورج كانغيلام أن الطب فنٌ في ملتقى طرق عدة علوم، أكثر من كونه علما مستقلا وقائما بذاته.