الشيطان؛ هذا الذي يعمل عمله في الإنسان، فيؤزّه أزّا لارتكاب الشرور!
كيف لنا أن نكشف عنه؟ وكيف لنا أن نتعرف على الوسائل التي يعتمد عليها
لإلحاق الأذى بهذا الإنسان الضعيف؟ .. لأن معرفتنا لهذه الوسائل التي يتغذى بها
الشيطان ليستمر في كيده للإنسان، ستمكننا من كشف القناع عن جانب من جوانبه الخفية،
وبعدها قد نستطيع محاصرته والحد من نفوذه وتسلطه! ثم إن تلك المعرفة قد تعيننا على
الوصول إلى مصلٍ يكسبنا مناعة ضد وساوسه اللعينة.
فعلامَ يتغذى الشيطان ؟!
لا شك أن هناك أسئلة كثيرة يمكن إثارتها إذا اعتبرنا الشيطان شيئا
منفصلا عن الإنسان!
لكن !!
ماذا لو كان الشيطان رمزا للشر الإنساني ؟
أي أن الشيطان ليس إلا كناية عن الشر الإنساني!!
وبتعبير رياضي : الشيطان = الشر الإنساني
حينها يكون غذاء الشيطان هو غذاء الشر الإنساني، فما هو هذا الغذاء؟
وهل يكون غذاؤه من خارج الإنسان (وهنا يكون الإنسان ضحية عوامل خارجة عنه) أم أنه
موجود في الإنسان ذاته (وهنا يكون متعلقا بحرية الإرادة لدى الإنسان)؟
إن ظاهرتي الخير والشر تكون في العمل الإنساني، ولذا توجب علينا أولا
أن نعرف ما الذي يتحكم في سلوك الإنسان، أي ما يأتيه من تصرفات واستجابات ظاهرة
للعيان بحيث يمكن رصدها. ولمعرفة سلوك الإنسان يلزمنا (ولو بشكل عام) معرفة الجهاز
العصبي المتحكم في مختلف أنشطته، وخاصة الدماغ المتربع على عرش السلطة في الجهاز
العصبي.
إن بنية الدماغ البشري حسب نظرية العالم الأمريكي بول ماكلين*، الذي
قسمه إلى ثلاثة مناطق: أولها الدماغ الزواحفي؛ والذي يتكون من الجزأين الخلفي
والمتوسط من الدماغ، اللذين يحتويان على جذع الدماغ والمخيخ والعقد القاعدية. وهي
التي تتحكم في الوظائف الأساسية والسلوكيات الضرورية للبقاء والتكاثر. ثم ثانيا
الدماغ الثديي (الجهاز الحوفي) الذي يقع قرب مركز الدماغ، ويتكون من بنى تتحكم في
سلوكيات ضرورية للكائنات الاجتماعية وكذلك بنى تتعلق بالعواطف. والمنطقة الثالثة
هي القشرة الحديثة للدماغ (اللحاء الجديد) والتي تتحكم في السلوك الإدراكي الأعلى
مثل قدرات التحليل والتفكير المنطقي.
والعلاقة بين هذه المناطق الثلاث من خلال وظائفها المتداخلة
والمتشابكة: الغريزة (غريزة البقاء والتكاثر) والانفعالات (العواطف) والفكر؛ هي
علاقة تكاملية تنافسية لدارات مختلفة من التغذية الرجعية بين مراكز التحكم لاتخاذ
القرارات. فعلى سبيل المثال، التفكير المنطقي يأخذ عدة ثوان؛ فهذا يعني أن من
المستحيل غالبا إجراء استجابة عقلانية لحالة طارئة، وغالبا ما تكون استجابة
انفعالية. ولذا تعتبر الانفعالات (الغضب، الخوف، ..) استجابات فورية، وغالبا لا
يتحكم وعينا بها. والعقلانية مثلا هي سيادة الفكر على العاطفة والغزيرة دون
إلغائهما. ولا شك أن هناك عوامل أخرى مثل الرغبة والإرادة والعادة وغيرها
إن المتأمل في عصور التاريخ الإنساني يجد أن أكثرها ظلاما هي تلك
العصور التي استعلت فيها العاطفة وسيطرت على التفكير العقلاني/ المنطقي وحرمت
العقل القدرة التحليلية الناقدة. إن سيادة العاطفة على الفكر نتج عنه اختراع
المعتقدات اليقينية التي لا يقبل أصحابها حتى مجرد التفكير في مساءلتها، وهذه
الحالة تسمى "التعصب"، حيث استحوذ اليقين على عقل صاحبه ولم يترك فيه
مكانا لبديل عنه.
فما التعصب ؟ وما أسبابه ؟
عصب: العين والصاد والباء أصل صحيح واحد يدل على ربط شيء بشيء.
والعصب: الطي الشديد. ورجل معصوب الخلق كأنما لوي ليا. ومنه العصبة أي جماعة
المرء. (معجم مقاييس اللغة)
التعصب (Prejudice) يعني التحيز والتحامل،
ويعني الحكم المسبق غير المنطقي، الذي لا يستند إلى خبرة واقعية أو إلى دليل موضوعي. وقد يعرف
التعصب بأنه اتجاه سلبي نحو جماعة محددة اجتماعيا. ولهذا الاتجاه مكون معرفي
(الأفكار النمطية) ومكون وجداني انفعالي (مشاعر الكراهية)، وهذا المكون الانفعالي
هو أكثر ما يميز التعصب.
وهنا نلاحظ أن الانفعالات، التي غالبا لا يتحكم بها الوعي، هي مكون
رئيس للتعصب، بينما يغيب التفكير العقلاني الذي يتميز به الدماغ الإنساني عن ساحة
التعصب الضيقة. وغالبا ما يولد التعصب مشاعر الكراهية نحو الجماعة المتعصب عليها،
وقد يتعدى ذلك إلى سلوكيات عدائية مختلفة تظهر شدة التعصب، حيث افترض غوردون ألبورت
خمس درجات للسلوك تتزايد في شدة تعبيرها سلوكيا عن التعصب: أسلوب كلامي أو تعبير
لفظي مضاد، التجنب، التمييز من خلال حرمانهم بعض حقوقهم، والاعتداء عليهم العدوان
الفعلي، والقتل.
والتعصب عادة ما ينشأ لأسباب دينية أو سياسية أو قومية عرقية، وتمتد
أسبابه لتكون علمية أو ثقافية. وكان جون بوردن هالدن قد اعتبر التعصب الديني أحد
أهم أربعة ابتكارات بشرية حدثت في الفترة ما بين عامي 3000 ق.م. و 1400م، بالإضافة
إلى الاستخدام العام للحديد والطرق المعبدة والتصويت. وليس هناك أوضح من التعصب
الديني الذي لطخ واقعنا بأنهار الدم (خاصة ما يحصل بين السنة والشيعة)، والذي
غالبا ما يصاحبه تصنيف الجماعات إلى كافرة ومؤمنة. ولعله بات أكثر وضوحا أنه حيثما حلّ التطرف الديني؛
حلّ التعصب. وقد يجرّ التطرف في التفاخر بالأصل والقومية إلى التعصب القومي، سواء
كان بين العرب والفرس، أو بين العرب والترك، هذا إذا لم يظن العرب أنهم أشرف
المخلوقات على الإطلاق. وليس معنى هذا أن الغرب الأبيض أو الشرق الأصفر أو الشمال
الأشقر أو الجنوب الأسمر براء. وقد يكون التعصب في المجتمع الواحد، حين يتوجه من
الأغلبية إلى الأقلية، ما يسمى اضطهاد الأقلية. ولا أتردد في القول بأن الاستياء
أو الضيق من التنوع والاختلاف بين أفراد المجتمع هو إحدى علامات التعصب. حيث أن التعصب ضد جماعة ما، غالبا ما يكون نتاج الجهل بها، وعدم محاولة التعرف عليها، كما أنه يعكس انغلاقا عن الآخر.
إن التعصب ظاهرة فردية وجماعية، أي أن هناك عوامل نفسية (الإحباط،
الإسقاط، الشخصية التسلطية، ..)، وأخرى اجتماعية (التنشئة الاجتماعية) تعمل على
تحديد وتشكيل التعصب. [ولهذا كان التعصب أحد مباحث علم النفس الاجتماعي**]
والآن؛ كيف يفكر المتعصبين ؟!
إن ما يغلب على التحكم في قرارات المتعصبين وسلوكهم هو انفعالاتهم مع
غياب التفكير العقلاني، وهذا ما يجعل قراراتهم المنبثقة من تفكيرهم الضعيف أكثر
فسادا وأعظم خطرا. حيث أن المتعصبين لا يشكّون في صحة عقيدتهم (عقيدة مطلقة)، فهي
مسلمة لا تقبل التساؤل، وهي عندهم أصحّ من القول بأن حاصل الجمع بين 1 و 1 هو 2،
وذلك لاعتقادهم أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة. ومطلقية اعتقاداتهم تعزز توظيفها
الانفعالي، وتمنحهم الوهم بالقدرة الكلية، و "يترافق الشعور بالقدرة الكلية
(الطّفْلية) مع حماس نرجسي وتمجيد لفكرة الانتماء إلى هذه الجماعة ممن اصطفاهم
الأزل أو التاريخ".
وفي تاريخ نشأة الحركات الدينية، يجري تعبئة الأفراد وربطهم بمثل أو
أفكار تنتمي إلى ثقافتهم، ولأن هذه المثل أو الأفكار مطلقة، فهي "تستحق أن
يضحي المرء بنفسه لأجلها، وأن يضحي بالآخرين في سبيلها". وفي المتعصبين
"تمرد على شيء ما غير مشبع، وموجود وبحث عن شيء ما كامل، يسعون لإحلاله محل
ما ينقصهم".
"إن المتعصب، المبهور بمثال انسلابي يقضم حريته، يعيش تجربة
يجري إنكار مأسويتها .. وهي غالبا ما تخفي عذابا وخوفا من الشعور بالعجز، الشعور
بالنقص، فهي التعويض عن الجرح الذي يصيب صورة الذات، وعن الانحراجية
المستديمة". ويفرق بولتروير بين المتعصب الأصلي والمتعصب المنقاد. فالأول
بيده الأمر/ السلطان الذي يسمح له بأن يعطي لجماعته الإذن بالتغلب على النواهي
المفروضة من الأنا الأعلى. (هل عرفتم معنى أمير الجماعة وقائد التنظيم؟!)
ونرجع الآن لنسأل مرة أخرى: ما غذاء الشيطان ؟
لقد رأينا كيف أن الأحكام المسبقة هي أقفال على عقول أصحابها، تمنعهم
من قبول الآخرين ورؤية ما لديهم من فضائل ومشتركات، ولهذا التعصب أعمى؛ لأنه يعصب على عقل صاحبه، فيعطّل قوى إدراكه، ويفقده بصيرته، فلا يعود
المتعصب قادرا على التمييز، فيضلّ سواء السبيل.
يقول الفيلسوف الأمريكي المعاصر رالف بارتن بري: "إن الحالة المعروفة
بالتعصب إنما هي أفظع القوى الإنسانية المدمرة للذات وأقواها شرا. إنها شريرة
لأنها تمحو أو تهدم جميع حوافز الرأفة وتزيل ضوابط الفكر النير وهدايته وتجرد
الإنسان من نزعته الإنسانية الخيرة وتفسد الحياة وتحقرها في صميمها. إنها أفظع من
القنبلة الذرية أو القنبلة الهيدروجينية لأنها تزود بالعاطفة الدافعة التي تسير
هذه الآلات".
هكذا يكون التعصب غذاء للشرور الإنسانية، وهكذا يكون التعصب غذاء
الشيطان!
وليس من الهين علاج التعصب! فالتعصب كسلوك أو كاتجاه يتطلب تغييرا على
مستويات مختلفة، منها: مستوى التنشئة الاجتماعي والعلاقات بين الجماعات، ومستوى
التأثير الاجتماعي الذي يتأثر به الأفراد، ومستوى قابلية الأفراد للتعصب.
بل إن البعض يقرر أنه ليس هناك من علاج للتعصب! ذلك أن التعصب ينبثق
من تغليب العاطفة على التفكير المنطقي، ولذا هناك إمكانية حقيقية لأن يثور كلما
ضعف التحكم فيه وفي الظروف التي تساعده على الظهور.
لقد فطر العقل على كل من الفكر والعاطفة والغريزة، فالفكر المنطقي
يحتاج إلى دفء العاطفة، والعاطفة تحتاج إلى نور الفكر. والعقل إنما هو عملية الربط
بين المدركات الواردة إليه عن طريق التفكر المنطقي (القشرة أمام الجبهية) والعاطفة
(الجهاز الحوفي) ومختلف أجزاء الدماغ، واستخلاص النتائج منها، ثم اتخاذ القرارات
المناسبة.
إن الشيء الذي يمكن أن ينجزه الفرد في سبيل الحد من التعصب على
المستوى الشخصي هو اعتماده على التثقيف الذاتي، حيث المعرفة تزيد في المرونة
العقلية التي تستطيع كبح جماح الانفعالات الحادة "وكيف تصبر على ما لم تحط به
خبرا"، كما أنها (أي المعرفة) توسع من إدراكه لذاته وللعالم الذي يعيش فيه، وتجعله يقول: إما كذا .. وإما كذا.
وختاما هذه الأبيات التي كتبها رابندرنات طاغور:
حيث العقل لا يخاف ، والرأس مرفوع عالٍ
وحيث المعرفة حرة
وحيث العالم لم يُمزق جدرانه التعصب
وحيث تخرج الكلمات من أعماق الحقيقة
وحيث الكفاح المستمر يمد ذراعيه نحو الكمال
وحيث لا يفقد جدول العقل مجراه في صحراء التقاليد الميتة
وحيث يقود العقل نحو ساعات أفسح من الفكر والعمل
تحت سماء الحرية تلك، يا إلهي، أيقظ وطني
----
الهوامش
* أظهرت دراسات بعض التعديلات على هذا النموذج.
** لعله من المهم معرفة كيف تؤدي هذه
العوامل إلى التعصب وكيف يمكن عن طريق فهمها كبح التعصب.
----
المراجع
1. مستقبل العقل، الاجتهاد العلمي لفهم
العقل وتطويره وتقويته ،ميشيو كاكو، ت. سعد الدين خرفان، المجلس الوطني للثقافة
والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الأولى، 2017
2. سيكولوجية التعصب، هاينال وآخرون،
ت. خليل أحمد خليل، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1990
3. إنسانية الإنسان بارتون رالف بري، ت. سلمى
الخضراء الجيوسي، المعارف، بيروت، الطبعة الأولى،
1961