عندما يتعلم الشاب شيئا قليلا، فإنه قد يظن
بسذاجة الطفل الغرّ أنه تعلم كل شيء! في هذه المرحلة قد يحدث لديه شك يجعله يتخذ قرارات تعارض
ما يعتقده وربما أدى ذلك إلى إنكاره لما كان يعتقده!
لكن هذا الشاب ما إنْ يتبحر في العلم حتى يدرك
أنه لا يعلم إلا شيئا يسيرا جدا، بل إنه سيدرك أنه لم يخض بحر العلم بعد. ثم إن هذا
الشاب وبعد أن اتسعت مداركه من خلال القراءة والبحث، فإنه غالبا ما يبدأ في مراجعة
نفسه، في مراجعة مسلماته واختياراته، يبحث في كل اتجاه عما يؤكد به خياراته وقراراته
أو يدحضها، يطرح على نفسه الأسئلة تلو الأخرى رافضا الإجابات الجاهزة المعلبة. إنه
يبني وعيه وفهمه معترفا بنسبية ما يتوصل إليه واحتمالية وقوعه في الخطأ، لذا يكون الشك
في نتائجه هو ما يجعله يتقدم باستمرار. إن هذا الشاب عندما يؤمن فإن إيمانه سيتخذ شكلا
مختلفا، سيكون أكثر وثوقا وأكثر رسوخا!
أما بعد،
فلعل من أصعب المراحل التي يقابلها الكثير من
الشباب والشابات وهم في ساحة الحياة هي تلك المرحلة التي تتمثل في تعارض الدين مع العلم.
في هذه المرحلة قد يصطدم هذا الشاب (أو تلك الشابة) بأسئلة لم يتعود على طرحها، بل
لم يسبق له أن صادف مثلها لأسباب كثيرة، منها ما تكون الأسرة سببا فيه، ومنها ما يتحمله
نظام التعليم البائس.
فالأسرة تعمل على كبت اندفاع الأطفال الفطري
والتلقائي إلى طرح الأسئلة، إما بالتهرب من الإجابة وإما بنهرهم عن طرح الأسئلة التي
تتعلق بالوجود والميتافيزيقيا (سواء لجهل آبائهم أو لغياب أبسط أساسيات التربية الحديثة
عن الوالدين)، وهذه التربية لا تنتج إلا أطفالا مكبوتي الشخصية، يعانون من هشاشة في
الروح وتآكل في الأفهام. وأما نظام التعليم فإنه يساهم في انغلاق عقول الشباب بتقييدهم
بمناهج مقررة سلفا وفرض اتباعها على التلاميذ والمعلمين، والتي لا تكون مخرجاتها إلا
شبابا مقيدا، لا ينعمون إلا بظلام كهوف التعليم الرطبة والمعتمة، ولا أدل على ذلك من
طريقة تقييمهم في آخر الأمر، حيث تتم بطريقة هي أشبه ما تكون بترويض الحيوانات لتكون
أليفة مطيعة يسهل التحكم بها واستغلالها في خدمة أصحابها دون أن يتجاوز ما تتطلع إليه
العلف الذي تأكله آخر اليوم!
ونرجع إلى ذاك الشاب الذي أصبح في دوامة الشك
وحاله كحال ذاك الشخص الذي يشعر بدوار بينما هو جالس وسط أناس يتحدثون ويضحكون ولا
يعلمون عنه شيئا، فهو (أي الشاب) لا يعرف كيف يمكنه أن يوفق بين ما يقوله الدين وبين
ما توصل إليه العلم. وقد يخيل إليه أنه أمام خيارين لا ثالث لهما: العلم أو الدين؟
لقد حُرم هذا الشاب من حقه في الشك منذ البداية،
حيث كان يجب أن يتعلم كيف يكون الشك المعرفي طريقا لاكتساب معرفة راسخة، ومَن لا يملك
الحق في الشك فإنه لا يملك حرية التفكير ولا يعرف قيمة التفكير العقلاني.
ولو أن هذا الشاب سأل نفسه أسئلة كان من الواجب
أن يتدرب عليها خلال سنوات التعليم العام، حيث كان من المفترض أن تُنمّى لديه طريقة
التفكير والبحث ومساءلة المعلومة مهما كان مصدرها ثم مناقشتها مع أقرانه أو معلمه أو
والديه (ولكن!!)
ومن تلك الأسئلة على سبيل المثال:
- ما العلم؟ ما طبيعة النتائج التي توصل إليها؟
هل نتائج العلم حقائق مطلقة؟
- ما الدين؟ هل يكون الدين إلهي أم بشري؟ وهل
يجوز أن يكون الدين بشريا؟ ثم إن جاز ذلك، فهل يجوز أن يكون هذا الدين البشري لكل الناس
في كل الأمكنة وكل الأزمنة؟
إنه عندما يبدأ المرء بتفحص ما توصل إليه العلم
(العلوم الطبيعية على سبيل المثال)، فإنه ومن خلال قراءته لتاريخ العلم يجد أن ما يقرره
العلم هو طيف من الاحتمالات، ولا يمكن أن يقرر العلم حقائق مطلقة.
ولنضرب بأمثلة من علم الفيزياء، العلم الأكثر
دقة بعد الرياضيات لنتعرف على طبيعة النتائج التي توصل إليه العلماء على مر العصور،
والتي لم تكن سوى نظريات يتم نقضها بواسطة العلماء اللاحقين بعد أن يعدلوا فيها أو
يكتشفوا نظريات أكثر تفسيرا للواقع، مع إدراك أن الحقائق العلمية ذاتها هي حقائق مرنة وقابلة
للتكذيب.
إننا إذا استعرضنا الأفكار الثورية في تاريخ علم الفيزياء فستكون هناك الأفكار القديمة ثم عصر النهضة فالعصر الحديث وصولا إلى عصرنا اليوم.
لقد أعتقد الناس قديما ولمدة طويلة بأن الأرض
لا تتحرك وأنها مركز الكون الثابت، ويوصف هذا التصور للكون بـ"الكون البطلمي" نسبة إلى بطليموس
صاحب كتاب المجسطي، وهو نفس تصور الكون لدى اليونانيين والرومان. واستمر هذا التصور حتى القرن السادس عشر الميلادي عندما جاء نيقولاس كوبرنيك وقال بأن الشمس
لا الأرض هي الساكنة (1)، وبذلك ظهر تصور مركزية الشمس. بعد ذلك جاء جاليليو جاليلي الذي طور التلسكوب (المقراب) وبواسطته أكد صحة نظام كوبرنيك وخطأ النظام البطلمي. وأما معاصره
الألماني يوهانس كبلر الذي ورث جداول صديقه الدنماركي تيخو براهه ومركزه في براغ، فقد كان مقتنعا بما توصل إليه كوبرنيك. إن أكثر ما اشتهر به كبلر هو اكتشافه لقوانينه الثلاثة
عن حركة الكواكب حول الشمس. وهؤلاء جميعا كانوا قد مهدوا الطريق للقرن السابع عشر
ليكون انطلاقة علم الفيزياء الحديثة بزعامة السير نيوتن. لقد اكتشف نيوتن قانون الجاذبية
(الثقالة)، وكذلك النظرية الجسيمية للضوء، وقوانين الحركة الثلاثة، وقال كذلك بالمكان
المطلق والزمان المطلق، ويعزى إلى نيوتن وليبنتز اكتشاف حساب التفاضل والتكامل.
وضع كريستيان هويغنر (1629 - 1695) نظرية موجية
للضوء، التي حلت محل نظرية نيوتن الجسيمية، لأنها كانت تفسر جميع الظواهر والخواص الضوئية
المعروفة وقتها، والتي لم تستطع نظرية نيوتن تفسيرها (ديبروي 1924 يؤكد أن للضوء طبيعة
مزدوجة جسيمية-موجية). وظهرت بعد ذلك نظرية ماكسويل الكهرطيسية وقانونا الترموديناميك
الأول والثاني، وكانت قد أثارت بعض التساؤلات عن مدى صحة قانون نيوتن الثاني.
ولم ينتهي القرن التاسع عشر حتى بات فريق من
الفيزيائيين يعتقد بأن الفيزياء بلغت أو كادت نهاية الشوط، لأنهم رأوا في الفيزياء
النيوتنية ونظرية ماكسويل الكهرطيسية في الضوء اكتمال الفيزياء النظرية. لكن الثورة
الفيزيائية التي حصلت في النصف الأول من القرن العشرين لا تقل أهمية إن لم تكن تفوقت
على الثورة النيوتنية. قدم الألماني ماكس بلانك نظرية الكم في عام 1900م، وقد أحدثت النظرية
الكمومية ثورة في الفيزياء الحديثة أو ما يسمى ميكانيكا الكم، وأضاف هايزنبرغ مبدأ
الارتياب أو اللايقين، كل ذلك أدى إلى إبطال مبدأ الحتمية عند نيوتن. وفي عام 1905م أنجز أينشتاين
نظريته النسبية الخاصة، حيث وحد بين المكان والزمان في كيان فيزيائي واحد هو الزمكان،
وبذلك حطم فكرتي نيوتن المنفصلتين، المكان المطلق والزمان المطلق. وفي نظريته النسبية
العامة استبدل انحناء الزمكان المتعدد الجوانب بقوة الجاذبية عند نيوتن، وقد ساهمت أيضا في نظرية نشوء الكون. لقد وجدت نظرية الكم والنظرية النسبية العالمين: عالم الجسيمات المجهري (نظرية الكم) و عالم النجوم والمجرات العياني (النظرية النسبية).
لقد بات واضحا مما ذكر سابقا (وإن كان يعيبه
الاختصار) من تاريخ علم الفيزياء أن العلم لا يمكن أن يقرر حقيقة مطلقة، بل هي نظريات
وقوانين قابلة للتغيير والابدال عندما تظهر قوانين أخرى تفسر الواقع بطريقة أكثر بساطة
وشمولية، وما زال علماء الفيزياء سائرين في الطريق الذي يتمنون أن ينتهي بهم عند نظرية كل شيء!
من جهة ثانية، قد يقول قائل مستنكرا: إن رجال
السياسة يستخدمون رجال الدين، والذين بدورهم يكيفون الدين ليناسب ما يمليه عليهم رجال
السلطة.
ونقول له: صدقت، وماذا عن مشروع مانهاتن؟ وكيف أن أمريكا استخدمت مجموعة من علماء الفيزياء في مشروع تصنيع القنبلة النووية، هذه القنبلة التي
راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، وكان من ضمن أولئك الفيزيائيين أوبنهايمر وروبرت
ويلسون وريتشارد فاينمان وغيرهم.
ومن جهة ثالثة، فقد برزت في منتصف القرن العشرين
أسئلة كبيرة ومفصلية عن جدوى العلم خاصة بعد الهجوم النووي على هيروشيما وناجازاكي، ومن تلك الأسئلة:
- ما دور العلم في حياة الإنسانية؟
- هل العلم في ذاته خير أم شر؟
- هل العلم نفسه مجرد أداة تستعمل للنفع أو الضرر؟
- هل العالم من حيث أنه عالم مفيد للإنسانية؟
ثم هل يجب ضبطه؟ فإن كان كذلك، فكيف يمكن ذلك؟
من الواضح أن العامل الأساسي في إحداث الشرور
التي نتجت عن طريق رجال الدين أو رجال العلم هو نفس العامل، إنه الكائن البشري.
إن الإنسان هو المتسبب الأول في معاناة
الإنسان سواء أكان ذلك بمنعه الخير أو بارتكابه الشر، وسواء أكان ذلك بطرق مباشرة أو بطرق
ملتوية؟! طرق تُخفى تحت مسمى هيئة دولية أو من وراء عناوين فضفاضة كحفظ الأمن الدولي
أو بالوقوف أمام الكاميرات لتأكيد القضاء على الإرهاب.
خاتمة
- إن الإنسان السائر هو نبي الله إبراهيم، وإن
إبراهيم هو إمام الناس، ولكي تصل إلى اليقين عليك بفأس إبراهيم.
******