الثلاثاء، 14 مارس 2017

الشعب الجاركوني

أكتب لك يا صديقي عباس عن الشعب الجاركوني، هذا الشعب الذي تمتد جذوره لأكثر من أربعة عشر قرنا ومع ذلك ما زال أفراده مشغولين بالمظاهر الخارجية والتفاهات والقشور التي تأنف الرياح من كنْسها.

إن الشعب الجاركوني شعبٌ يتغنى بالماضي كثيرا مع أنه لم يصنع فيه شيئا، وإنما كان صنيعة أناس قد رحلوا معه. ومن المفارقة أن الجاركونيين ومع ماضويتهم إلا أنهم يستهلكون المنتجات العصرية والتي لو رآها أسلافهم لماتوا مثلما مات أصحاب الكهف بعد أن وجدوا أنفسهم في زمن غير زمنهم.

وأمر ثانٍ يذكرنا بالقرون الماضية، قرون الاضطهاد الديني، وهو أن الجاركونيين يسارعون ليس إلى تكفير الآخر المختلف عنهم فقط، بل حتى أولئك الأفراد الذين ينتقدون شخصياتهم التاريخية، لأنهم يقدسون الماضي بشخصياته وأحداثه حتى وإن زعموا غير ذلك.

ربما تسألني يا صديقي عباس: ولماذا يقدسون الماضي؟

إنك إذ تطوف بنظرك الجهات الأربع فلا تجد إلا أمما وشعوبا قد بلغت من التقدم والنجاح مبلغا عظيما، ولما لم يستطع الجاركونيون أن يبلغوا ما بلغه غيرهم من تقدمٍ في شتى ميادين العلوم وتطورٍ في مختلف مجالات التصنيع، وتميزهم في تقرير الحريات وعدالة القوانين التي تنسف أي تمييز بين أفراد المجتمع، فإنهم (أي الجاركونيين) إرتأوا التقليل مما حققه الآخرون، لقد أصبح الواقع أكثر ألما للجاركونيين وأصبح التخلف والتبعية للآخر محبطا لهم، فلم يجدوا إلا تراثهم الماضي المنمّق ليركنوا إليه حين كان لأسلافهم عزة ومكانة، وإن كانت أوضح ما يكون في الملك. ويا للصدمة يا عباس عندما تعلم أنهم لم يقرؤوا تراثهم قراءة نقدية تمكنهم من التمييز بين الحقائق المعرفية والوقائع التاريخية.

أما إذا نظرنا إلى المستفيد من إبقاء الشعب الجاركوني متمسكا بالماضي عازفا عن العيش في الحاضر وغير مبالٍ بالمستقبل، فإننا سنجد نظاما متناسقا من السيطرة. وهذا النظام يوجه رغبات هذا الشعب وحاجاته نحو ما يتناسب مع استمرار السلطة عليه. لقد خلق هذا النظام مجتمعا سكونيا يعيق كل محاولة للتغيير، ويساهم كأداة للسيطرة على أفراده، فالمجتمع يجبرهم على التطابق، ويمنعهم من الاختلاف الذي يؤدي بصاحبه إلى العزلة حتى يغطيه الرماد. ومما هو معلوم أن عقيدة المجتمع تسد الطريق أمام أي تغيير.

إنك تعلم يا صديقي ما تعانيه الحضارة الصناعية اليوم من تفكك اجتماعي فظيع ومعاناة اقتصادية مريرة، ولكن كما أخبرتك من قبل بأن الجاركونيين لا يهتمون إلا بالمظاهر.

وسأحدثك عن أكثر ما شد انتباهي عندما عاشرت هذا الشعب. إن الجاركونيين لا ينتجون شيئا! إنهم آلات استهلاكية حتى إنك لتظن أنهم لن يعيشوا حياة أخرى. إنهم يستهلكون أشياء لا حاجة لهم إليها، والأمرّ من ذلك أنهم يستدينون لشراء كماليات وأشياء رمزية ليتفاخروا بها أمام الآخرين. إنهم لا يتباهون إلا بما يشترون وبئس ما يفعلون. ولا غرابة أن يكون شعارهم: أنا استهلك إذن أنا موجود. إن الشعب الجاركوني يستورد كل شيء تقريبا؛ الطعام واللباس، ووسائل الاتصال والمواصلات، وكذلك العقول التي تفكر عنه وتضع له الخطط المستقبلية. وإنني أستطيع أن أقول: إن الجاركونيين فقراء ولكن لا يعلمون. وهم يحبون المال أكثر من حبهم لأنفسهم، ذلك أن أحدهم إذا خسر ماله، فإنه يظل في حسرة وندامة مدة متطاولة من الزمن تكفي لأن يخسر الإنسان صحته وربما أصبح عاجزا وهو ما زال في سن الشباب، هذا إذا لم يخسر نفسه!

ولعل أكثر ما يبهرك في ثقافة هذا الشعب هي تعاليم الدين الذي يتبعه، ولكن المحزن في الأمر أن الجاركونيين لا يتبعون هذه التعاليم! إنهم فقط يرددونها كما تفعل الببغاوات. فمثلا؛ ينهى دينهم عن التبذير، ولكن الجاركونيين يتميزون بموائد الطعام الكبيرة ومظاهر الترف المقززة. وكذلك ينهى دينهم عن الكذب، ولكن الكذب منتشر فيهم. ولك أن تتخيل مدى الكارثة الاجتماعية التي يسببها الكذب، وإن كانوا يسمونه بأسماء مختلفة! والغريب أنهم يتباهون أحيانا بهذه الرذيلة، فهل تعرف شعبا في مثل هذا المستوى من الأخلاق؟

ما أكثر الفضائل التي يتحدثون عنها، ولكن الواقع يعلنها صراحة أنها لا توجد إلا في أحاديثهم وص. وهذا التناقض الذي يبدو واضحا بين أقوالهم وأفعالهم هو أحد نتائج تناقض المسلمات التي تطوف في عقولهم بكل سلاسة، وذلك لغياب التفكير النقدي، فتفكيرهم تقوده الرغبة والأحكام المسبقة، وهذا ما جعلهم ضيقي التفكير، متقوقعين على أنفسهم وقد غفلوا عن بحر الإنسانية الواسع العميق.

إن روح التعصب تسكن أدمغة الجاركونيين، ذلك لأنهم يؤمنون بسموهم على سائر الناس، وبسمو دينهم على كل الأديان، بل ومذهبهم على بقية المذاهب. وهذه الروح المعتلة تنشط كلما طغت العاطفة على العقل، وما السواد الذي يلطخ التاريخ الإنساني إلا نتاج سيادة العاطفة في ظل غياب العقل. إن التعصب شر أول ما يدمر نزعة الإنسان إلى الخير ثم سرعان ما يفتك بعقل صاحبه فيصيبه الاضطراب وفقدان البصيرة وقصر النظر، فلا يكون إلا خيبة على صاحبه. 

وإذا سألتني عن سر شقاء هذا الشعب الفارغ والمصاب بالتخمة في نفس الوقت! فإنه يجب عليك أولا أن تعرف ما إذا كان هذا الشعب يشعر بأنه في شقاء أم لا، وهنا يكمن أحد أسباب شقاوته!

إن الشعب الجاركوني يرى أنه من أكثر سكان الأرض سعادة، بل إن بعض أفراده يعتقدون أنهم وصلوا إلى أعلى مراتب السعادة لذا تجدهم دائما يبتهلون إلى الله أن لا يغير عليهم، متناسين أو بالأصح جاهلين بأن التغيير هو الصفة الثابتة في هذا العالم. ثم إن هذا الشعب يفتقر إلى تذوق الفنون؛ وهذا بسبب آراء بشرية منعت عنه الفنون، فلا يوجد من أفراده رسامون أو نحاتون أو مهندسو عمارة، ولا تكاد تسمع بالمسرح والموسيقى. إنه لم يكن للفن مجد إلا في أفواههم، وأقصد الشعر، وهو أقرب من الصنعة منه إلى الفن. فهم كثيرو الكلام ولكنهم لا يقولون شيئا. وهم مع كثرة كلامهم لا يفعلون شيئا. إنهم عديمو الإرادة، وكيف لا؟ وكل فرد منهم يشعر بأنه عاجز عن إبداع شخصيته المتفردة، وهذا الشعور بالعجز والفتور هو ما يفقد الإنسان لذة الحياة ومعناها. ويبدو أن اعتمادهم على توّهم مفاده أن الله سينصرهم (وكأنهم في حرب) وأنهم سيكونون في مقدمة الشعوب وأعلاها مكانة، سببٌ في كبح إرادتهم ومخدرٌ شل حركتهم نحو تحقيق حياة كريمة لهم. وفيهم يصدق ما قاله جون بانيل بيوري: طالما أن البشر لديهم شعور بالاعتماد على عناية إلهية، فهم لن يستطيعوا بناء نظرية في التقدم.

لعلني أكثرت عليك من عجائب وغرائب هذا الشعب الوديع الذي يفضل الأمن على الحرية، مع أني لم أخبرك عن وضع المرأة الجاركونية المأساوي، لكن إذا كان هذا حال الذكور في مجتمع ذكوري، فكيف سيكون حال النساء؟!

وسأذكر لك شيئا عن الطبقة الحاكمة. إنك لن تستطيع أن تميز بين الشعب الجاركوني وبين حكامه. وأول ما تلاحظ هو أن أخلاق الشعب ما هي إلا نتيجة لما عليه الطبقة الحاكمة، ثم إنك ستدرك غياب التفكير، فضلا عن السعي، في إحراز أمجاد تسطر أسماءهم في صفحات سجل التاريخ الإنساني البيضاء، وإن كانوا يسطرون أسماءهم في صفحاته السوداء، كسجل الحروب مثلا. إن كل ما تتطلع إليه الطبقة الحاكمة هو الاستمرار في الحكم بغض النظر عن الوسيلة التي تتخذها في تحقيق هذه الغاية، فالسلطة كما تعلم تجسيدٌ لشهوات الإنسان البهيمية.

إنني لا أعرف كيف نستطيع مساعدة الشعب الجاركوني للنهوض من هذا السبات العميق الطويل! إنك إذ تنظر إليهم فإنك لا  ترى إلا وحدة واحدة متطابقة، كقطيع تعيس من الحيوانات الأليفة. لكن الانفتاح على الآخر ووسائل التواصل الاجتماعي تنبئ بالتغيير، وهنا يجب أن نعي أن الإنسان ذو قدرة محدودة على التكيّف مع التغييرات التي تحدث له، والتغيير في حد ذاته هو أحد أهم العوامل البيئية التي تؤثر على صحة الإنسان.

نعم، إن التغيير مطلوب وحتمي في نفس الوقت، ولكن عندما يفرض نفسه على الإنسان، وبطريقة تفوق قدراته الفسيولوجية على التكيّف، فإنه يكون عرضة للإصابة بما يسمى "صدمة المستقبل"، وفي هذا يقول عالم الاجتماع لورنس سوم: "نمرّ بفترة تشبه من حيث تأثيراتها الصدمية تطور أسلاف الإنسان من مخلوقات بحرية إلى مخلوقات برية .. فأولئك الذين سيستطيعون التكيف سوف يتطورون، أما أولئك الذين لن يستطيعوا فإما أن يبقوا عند مستوى أقل من التطور، وإما أن ينقرضوا ويدركهم الفناء". وليس من الصعب تخمين أي الطريقين يسير فيه الجاركونيون وأي نهاية تنتظرهم ! 

وأخيرا يا عزيزي عباس فإنني لا أتمنى لك زيارة هذا الشعب، لأنك ستفقد لطفك وحسن ظنك بالآخرين. وكما تعلم فإن الرذيلة تستدعي بقية الرذائل، وإنه مهما كان المرء فاضلا، إلا أنّ البيئة السيئة لا بد وأن تلوثه.

الثلاثاء، 16 جمادى الآخرة 1438 هـ